يصاحب الغلاء شهر رمضان المبارك، فتغيب قسراً عن موائد الصائمين أصناف من الطعام والشراب كانت تعتبر قبل بدء الأزمة المعيشية منذ أربع سنوات أساسية وتتناسب مع عادات هذا الشهر الفضيل، طارت اللحوم والدجاج وبعدها الحبوب والخضروات واليوم بات صحن الفتوش مُهدّداً بالغياب، بعدما تحوّل عبئاً يثقل كاهل العائلات الفقيرة والمتعفّفة في خضمّ سلمّ الأولويات.
اللبنانيون الذين اعتادوا على إرتفاع الأسعار مع قدوم شهر رمضان، وجدوا أنفسهم هذا العام مع جنون الدولار غير قادرين على شراء مكوّنات صحن الفتّوش الطبق الرئيسي على طاولة الإفطار، حيث باتت كلفته تلامس 250 ألف ليرة لبنانية، ارتباطاً بارتفاع أسعار البندورة (60 ألفاً) والخيار (80 ألفاً)، الخسّة (45 ألفاً)، ضمّة النعناع (15 ألفاً) ربطة البقدونس (20 ألفاً)، والحامض (20 ألفاً)، فيما قدّرت وجبة الطعام اليومية للشخص بنحو 300 ألف ليرة لبنانية على الأقلّ.
داخل سوبرماركت في صيدا وقف محمود سمهون يراقب لوحة الأسعار، يكاد لا يصدّق عينيه، يحدّق بها مرّة ومرّتين وثلاث مرّات كي يتأكّد، قبل أن يدرك أنّها ارتفعت فعلاً مع رمضان، ويقول لـ»نداء الوطن»: «كان كيلو الحامض بنحو 15 ألفاً صار اليوم بـ 20 ألفاً بدلاً من مراعاة الشهر الفضيل. كنت بين خيارين أحلاهما مُرّ: تقليص الكمّية إلى الحدّ الادنى أو الاستغناء عن صحن الفتوش كلّياً فاخترت الأول»، ويضيف: «رمضان يعني الفتوش والتمر وشراب الجلّاب والحلويات، كلها طارت مع الغلاء، حتى الفليفلة صار سعرها على اسمها، بشلفط».
«حمرة وحلوة يا بندورة بس سعرك نار وكَوَى». ويقول مازن مدوّر لـ»نداء الوطن» وهو يقلّب حبّات منها بحسرة: «سعرها 60 ألف ليرة لبنانية، قد نُحرم منها قريباً كما اللحوم، حيث يتراوح الكيلو بين 800 ومليون ليرة لبنانية، بينما الدجاج يفوق الـ600 ألف ليرة، لقد استغنت الناس عنهما وباتت تضع مكانهما المرقة، وبالكاد تفعل».
لا يقتصر الغلاء على الخضروات، إذ طال ما كان يوصف بأنّه طعام الفقراء، الفول والحمّص والمناقيش والأهمّ البيض والبطاطا، تُقسم «أم وسيم» الابريق أنّها لم تُدخل البطاطا إلى منزلها منذ أشهر عدّة، «ليس فقط بسبب غلاء سعر الكيلو (20 الفاً) وإنّما لما يتطلّبه من زيت وغاز لا قدرة لنا على تحمّل نفقاتهما، فالعين بصيرة واليد قصيرة».
وانسحب الأمر نفسه على اللبنة والجبنة، ففي ظاهرة لافتة عادت ربّات المنازل لتشتري غالونات الحليب وتصنع منه اللبنة والجبنة، وتوضح الحاجة «أم محمد» الزكنون: «منذ عام تخلّيت عن اللبنة والجبنة وأصبحت اشتري الحليب الطازج، وأصنعها في البيت كما كانت تفعل أمّهاتنا وجداتنا، لأنّه أوفر وفيه بركة ويكفي العائلة لبضعة أيام».
أمّا الحلويات فقد أصبحت للميسورين فقط، انتهت حقبة من الذكريات الجميلة حين كانت تشكّل جزءاً أساسياً من مائدة رمضان، ارتفعت أسعارها بشكل قياسي، ولم تعد على جدول العائلات وموائدها فيغيب الكلّاج وزنود الستّ والقطايف عن الموائد قسراً، وسقطت معها مقولة «البيوت أسرار»، إذ فتحت الأزمة المعيشية كلّ الأبواب ولم يعد هناك أسرار، فالناس تئنّ وتصرخ من الجوع والفقر، و»قلّة المصاري» جعلتهم يبحثون عن كيفية تأمين الطعام والشراب وكفاف العيش.
وعكست النداءات المتتالية لفاعليات المدينة وجمعيّاتها الخيرية للتبرّع وبسخاء في شهر الرحمة، مدى استفحال الأزمة الاقتصادية، فالجمعيات التي اعتادت أنْ تساعد الفقراء والعائلات المتعفّفة في هذه المناسبة، سواء بإقامة إفطارات يومية أو وجبات يومية ساخنة، أو توزيع حصص تموينية وغذائية، تقف عاجزة عن فعل الكثير، وسط حرصها على استمرار التكافل الاجتماعي والتكاتف لتمرير المرحلة بأقلّ الخسائر الممكنة.
ويقول مفتي صيدا وأقضيتها الشيخ سليم سوسان في رسالته السنوية في رمضان: «لقد وصلت الأمور إلى حافة الانهيار والانفجار، وما زلتم يا أهل النظام كما أنتم تصرّون على الفشل والأنانية والانتهازية والإساءة لمن أوكلكم شؤون حياتهم من هذا الشعب الصابر الصامد حتى وصل إلى ذلّ التسوّل والطلب والحاجة… اذا كان الغني يشكو فماذا يفعل الفقير؟ خافوا الله وغضب الناس في هذه الأيام الصعبة».