أصابت الحكومة في قرارها القاضي بالتوقف عن دفع الديون السيادية، وإعادة هيكلتها. إنما القرار على أهميته لا يشكل حلاً، فهو أتى كنتيجة طبيعية لأسباب كثيرة ومتراكمة؛ أهم هذه الأسباب تورّم القطاع العام، تضخم الدولة وعجز موازناتها الدائم، والذي أضيف اليه منذ العام 2011 ولغاية اليوم عجز ميزان المدفوعات، وخسارة الاقتصاد لأحد أقوى مقومات صموده.
نمنا على قرار تاريخي، ولكن لم نستيقظ على آلية واضحة وشفافة لإدارة المرحلة المقبلة. فالإمتناع عن الدفع مع عدم بلورة طريقة لرسملة الإقتصاد وضخ الأموال فيه من جديد يعقّد الأمور أكثر مما يحلها.
سلّم اولويات الخطة الحكومية المنوي تطبيقها، كما اعلن الرئيس دياب، هي في اعادة التوازن الى المالية العامة حيث قال: “إذا أردنا تحرير أنفسنا من عبء الدين، لا يجوز أن ننفق أكثر مما نجني”. المشكلة ان هذه الخطة لا تحل أزمة المودعين ولا تؤمن استثمارات ولا تخلق فرص عمل ولا تطور الاقتصاد. وفي حال تطبيق الخطة كما ورد في عناوينها العريضة نكون ما زلنا عالقين في المربع الاول للأزمة.
العجز عن الإصلاح
“ما سمعناه أمس الأول لم يتعدّ كونه توصيفاً للأزمة وتقاعساً عن الدفع واعلان تعثّر وافلاس الدولة، من دون وجود خطة جدية وواضحة”، يقول النائب الياس حنكش. وبرأيه فإن “أي خطة إنقاذ ستنحو باتجاه تحميل الطبقات الفقيرة والمتوسطة ثقل المرحلة من خلال فرض المزيد من الضرائب والرسوم ستفشل، لأن المواطن جاع ولم يعد قادراً على التحمل. فالحل يجب ان يتركز على تحميل المسؤولية لمن استفاد من هذا النظام طوال السنوات الماضية، لكن السخرية اننا نطلب الاصلاح من نفس الأشخاص الذين اغرقوا البلد في الأزمات”.
أهمية “الصندوق”
الإعلان الرسمي لم يتطرق إلى النقطة الأهم المتمثلة “بكيفية تأمين السيولة اللازمة لاعادة بناء الثقة وتحسين الإقتصاد وعودة إلاستقرار للعملة الوطنية”، يقول المستثمر في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين.
ففي ظل إحجام كل الدول عن مساعدة لبنان ودعمه مالياً، يبرز صندوق النقد الدولي كمنقذ وحيد، خصوصاً مع التوقع باستمرار تنامي العجز في ميزان المدفوعات في المرحلة المقبلة بمعدل يتراوح بين 6 الى 8 مليارات دولار.
ردم هذه الهوة السحيقة يتطلب توفر العملة الصعبة، والا سيعجز البلد عن استيراد المواد الاساسية التي يحتاجها. من هنا فان الدخول في برنامج مع صندوق النقد يضمن، بحسب الزين، “تأمين ما لا يقل عن 20 مليار دولار تضخ في الاقتصاد على ثلاث مراحل وبفوائد متدنية ومجدولة على فترات زمنية طويلة، مما يساهم في تخفيف ضغط الازمة ويسهل الشروع في عملية انقاذ حقيقية”.
بالإتفاق لا بالإكراه
بيت القصيد في حل الازمة لم يجر التطرق اليه لا من قريب ولا من بعيد في الإعلان الرسمي عن إعادة جدولة الديون. والسبب هو “غياب الإجماع الوطني على الإستعانة بمساعدة الصندوق، وعدم نضوج اتفاق سياسي بين مختلف الأطراف”. إلا ان هذا الاتفاق آتٍ لا محالة”، برأي الزين. فهواجس بعض الاطراف، أقله العلنية منها، من ان مساعدة “الصندوق” ستؤدي إلى زيادة الضرائب على ذوي الدخل المحدود، ليست في مكانها. فمن المستبعد أن يطلب المزيد من الإجراءات الضريبية القاسية والموجعة في ظل حالة الإنهيار التي يشهدها البلد. فأولويات الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ستكون برأي الزين هي “ترشيد الانفاق، معالجة أزمة الكهرباء، إقفال الصناديق والمؤسسات غير المجدية، ومراقبة ابواب الهدر والفساد، وتعيين الهيئات الناظمة للكهرباء والاتصالات، وليس المباشرة بفرض الضرائب”، ويضيف الزين ان “الحكومة ستأخذ عاجلاً أم آجلاً القرار الصحيح مع مختلف القوى السياسية في البلد للإستعانة بالصندوق. على أمل ان يتخذ القرار سريعاً لان كل يوم تأخير يزيد الفاتورة على الإقتصاد والمواطنين”.
الثقة مفقودة
المدير التنفيذي لشبكة المنظمات غير الحكومية العربية للتنمية، زياد عبد الصمد يرى ان “الإستعانة بصندوق النقد بوصفه ناظراً على الإصلاحات وأداة لضخ الأموال في النظام سيكون على حساب فرض تدابير إصلاحية مؤلمة ومؤذية ليست بالضرورة مفيدة إقتصادياً. إذ ان زيادة الضرائب تعني لجم الانفاق وبالتالي تخفيف الإستهلاك”.
تتفق الآراء المعارضة لتدخل صندوق النقد بأن وجوده ممكن ان يعزز المداخيل في الموازنة لكن من جهة أخرى تحمل هذه الإجراءات تبعات خطيرة.
الحلول، برأي عبد الصمد، كثيرة وهي تتمثل أولاً “بضرورة عودة الثقة”. فالمجتمع لا يثق بالسلطة والمسؤولين ويعتبرهم فاسدين. وبالتالي فان “المواطنين غير مستعدين للتضحية بليرة واحدة من أجل تعويم هذا النظام، والمغتربين غير مستعدين لتحويل دولار واحد من الخارج سيصرف بنفس الطريقة”، يضيف عبد الصمد، من هنا يرى انه من “الأفضل البحث عن مداخيل مختلفة نوعياً تأتي من عمليات الإصلاح الجذري العميق السياسي والإقتصادي تعيد الثقة للمواطنين والمستثمرين في الداخل والخارج. فلا حل طالما هذه الطبقة السياسية موجودة”.
لحين “قدوم صندوق النقد الدولي ببرنامجه وأمواله فان البلد سائر في الأيام القادمة بوتيرة سريعة إلى الانهيار”، يقول أحد الخبراء. حيث سنشهد المزيد من اقفال شركات وتزايد عمليات صرف العمال والموظفين وتدهور سعر الصرف وتراجع القدرة الشرائية واستمرار الضغط على القطاع المصرفي.