“يا فرحة ما اكتملت!” بالفعل… لم تكتمل فرحة اللبنانيين الذين كانوا ينتظرون الدخان الأبيض من مجلس الوزراء الأربعاء الماضي. فالحسابات السياسية وصراع الصلاحيات أطاحت مشروع موازنة العام 2019. هذا الأمر دفع بالرئيس الحريري إلى رفع الجلسة لمدة 48 ساعة دون تحديد وقت، أي من المفترض أن ينعقد مجلس الوزراء اليوم لإستكمال دراسة مشروع الموازنة على أمل أن يتمّ إنهاء دراستها بالكامل.
وكانت جلسة نهار الأربعاء (على الرغم من هدوئها النسبي) قد إنتهت بأجواء سلبية بعد إصرار الوزير جبران باسيل على خفض العجز أكثر من خلال الأخذ بإقتراحاته الإضافية وعلى رأسها: تعديل تطبيق التدبير رقم 3، وقف التهرّب الضريبي وضبط الحدود، إخضاع مصرف لبنان للضريبة على الفوائد، خفض موازنات بعض الوزارات، وضع سقف لمنح التعليم، تخفيض الرواتب العالية، وقف مفعول التدرج، إلغاء التوظيفات التي تمّت بعد أيلول العام 2017.. أمّا الرئيس الحريري من جهته فقد كان راضيًا عن النتيجة وقال إنه يأمل في أن تكون جلسة الجمعة (اليوم) هي الأخيرة بحكم أن العجز المتوقّع أصبح 7.5% وهو أكثر مما كان ينتظره المُجتمع الدوّلي من لبنان.
صراع أرقام؟
الصراع القائم حاليًا هو حول تخفيض عجز الموازنة إلى أقلّ من 7% أو الإكتفاء بعجز 7.3% إستطاع مجلس الوزراء تحقيقه حتى الساعة. وتنصّ المعايير العالمية أن الإنتظام المالي للدوّلة لا يُمكن أن يتمّ إلا بالمحافظة على عجز في الموازنة أقلّ من 3% من الناتج المحلّي الإجمالي إضافة إلى دين عام أقلّ من 60% من الناتج المحلّي الإجمالي.
لقد تعهّد لبنان خلال مؤتمر سيدر، بخفض عجز موازنته إلى أقلّ من 5% خلال خمس سنوات إبتداءً من العام 2018 .
لكن تجربة العام 2018 التي أدّت إلى رفع العجز في الموازنة من 9% إلى 11.5%، تطرح مُشكلة مصداقية الأرقام المكتوبة في الموازنة إن من ناحية تقديرات الإيرادات أو النفقات. والمعروف أن الإيرادات تخضع لعملية تصحيحية تلقائية ناتجة من نسبة تحصيل الحكومة لمستحقاتها (تهرّب ضريبي، فساد…) وبالتالي يتوجّب إحتساب نسبة معينة من الإيرادات المُقدّرة تأخذ بعين الإعتبار نسبة التحصيل. أيضًا تخضع النفقات إلى تخطّي للإعتمادات المنصوص عليها في الموازنة (حالة التوظيف العشوائي ما بعد أيلول 2017) على الرغم من أن هذا الأمر ممنوع في القانون ويتحمّل الوزير التبعات من أمواله الخاصة.
إذًا ومما تقدّم نرى أن مصداقية الأرقام الموضوعة في الموازنة خاضعة لعاملين: الأول نسبة التحصيل والجباية للدوّلة اللبنانية، والثاني نسبة تخطّي سقوف الإنفاق المنصوص عليها في الموازنة. وبالتالي إحترام أرقام الموازنة (أي المتوقّع يساوي المُحقّق) يفرض التشدّد في الجباية وعدم تخطي سقف الإنفاق.
عوامل سياسية
مصادر حكومية معنية بملف الموازنة قالت إن الصراع القائم ليس صراع أرقام بل هو صراع سياسي من خلال إستحضار صراعات مستقبلية ستطال إستحقاقات إنتخابية وعلى رأسها الانتخابات النيابية من خلال مشروع قانون الانتخابات ولكن أيضًا رئاسية من خلال تكريس معادلة الرئيس القوي.
الوزير جبران باسيل إستطاع من خلال الطروحات التي قدّمها خفض عجز الموازنة من 7.6% إلى 7.3% في أخر التقديرات، ويُصرّ على تنزيل هذا العجز إلى ما دون الـ 7%. بمعنى أخر، سيكون لبنان قدّ حقّق الخفض في عجز الموازنة المطلوب في مؤتمر سيدر (أي 5%) خلال عام واحد بدل خمسة أعوام!
نظريًا يُعتبر تخفيض العجز بهذا الكمّ إنجازاً فعلياً. لكن السؤال المطروح: هل نحن بحاجة إلى مزيد من التخفيض؟
المعارضون يؤكدون أن للوزير باسيل حسابات سياسية تتمثل بـ:
أولاً- تسجيل إنجازات مالية للعهد بعد الإنجازات الأمنية والسياسية التي تحقّقت والتي تجعل من “حكومة العهد الأولى” حكومة فعّالة.
ثانيًا – تكريس معادلة الرئيس القوي وهو ما سيُعطي الوزير باسيل أفضلية في السباق الرئاسي من خلال إثبات دوره المحوري في كل شؤون الدولة اللبنانية، وتساعده في ذلك كتلة نيابية وزانة تلعب دور فيتو في المجلس النيابي.
ثالثًا – إرسال رسالة واضحة في ما يخص قانون الانتخابات النيابية مضمونها أن لا شيء يمرّ دون موافقة التيار الوطني الحرّ.
أمّا من وجهة نظر التيار الوطني الحر، فيعتبر الوزير باسيل أنه من غير المقبول الوقوف أمام الشعب اللبناني والقول إنه لم يعد لدينا مال للدفع، لذا من المفروض القيام بكل الإجراءات اللازمة حتى لو كانت موجعة لتفادي الوقوع في المحظور.
وقال الوزير باسيل في مؤتمر صحفي البارحة على أثر اجتماع تكتّل لبنان القوي أن التيار الوطني الحرّ يُريد حلّ أكبر عدد من المشاكل وما تمّ القيام به حتى الساعة غير كاف. وأضاف أن وقف الهدر وخفض الإمتيازات ووقف المساهمات والحالات الشاذة كفيل بتصحيح الوضع.
الصيغة الأخيرة للموازنة
مشروع الموازنة بعد التعديلات التي تمّ التوافق عليها في مجلس الوزراء يشير إلى أن حجم الموازنة بلغ 25.726.268.147.000 الف مليار ليرة لبنانية. وبحسب المشروع توزّعت الإعتمادات على الأبواب على الشكل التالي (ترتيب من الأكبر إلى الأصغر): النفقات المشتركة 11.293 مليار ل.ل، وزارة الدفاع 2.916، وزارة التربية والتعليم العالي 2.085، وزارة الداخلية والبلديات 1.636، رئاسة مجلس الوزراء 1.208، وزارة الصحة العامة 740، وزارة المالية 641، إحتياطي الموازنة 622، وزارة الطاقة والمياه 400، وزارة الأشغال العامة والنقل 390، وزارة العمل 365، وزارة الشؤون الاجتماعية 338، وزارة الخارجية والمغتربين 182، وزارة العدل 114، مجلس النواب 82، وزارة الزراعة 81، وزارة الثقافة 50، وزارة الإعلام 45، وزارة الاقتصاد والتجارة 39، وزارة السياحة 22، رئاسة الجمهورية 14، وزارة الشباب والرياضة 13، وزارة المهجرين 8، وزارة الاتصالات 6 والمجلس الدستوري 2.
أمّا النفقات الجارية والبالغة قيمتها 21-686 مليار ليرة لبنانية، فتوزّعت على الشكل التالي (ترتيب من الأكبر إلى الأصغر): النفقات المالية 36%، المخصصات والرواتب والأجور وملحقاتها 22%، منافع إجتماعية 19%، التحويلات ومن ضمنها المساهمات في أجور 8%، سلفة خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان 7%، مواد إستهلاكية 3%، نفقات مختلفة 3%، خدمات إستهلاكية 1%، ونفقات طارئة وإستثنائية 1%.
من جهة النفقات الإستثمارية، بلغت الإعتمادات المرصودة 1-628 مليار ليرة لبنانية موزّعة بين إستملاكات، تجهيزات، صيانات ونفقات أخرى.
في مقابل هذه النفقات، توقّع مشروع الموازنة إيرادات (من دون الموازنات الملحقة) بقيمة 23,315,338.000.000 الف مليار ليرة لبنانية موّزعة على الشكل التالي:
1- الإيرادات الضريبية: 14.689 مليار ليرة لبنانية (الضريبة على الدخل والارباح ورؤوس الأموال 5.039 مليار ليرة، ضريبة على الأملاك 1.285، الرسوم الداخلية على السلع والخدمات 6.360، الرسوم على التجارة والمبادلات الدولية 1.050)
2- الإيرادات غير الضريبية: 4.349 مليار ليرة لبنانية (حاصلات ادارات ومؤسسات عامة /املاك الدولة 2.592، الرسوم والعائدات الادارية والمبيعات 1.138، الغرامات والمصادرات 58، والايرادات غير الضريبية المختلفة 560).
3- القروض: 4.268 مليار ليرة لبنانية وهي قروض داخلية.
نقاط سوداء
مشروع الموازنة بعد التعديلات يطرح علامات إستفهام على بعض النفقات غير المُبرّرة بالمطلق. فالمواد الإستهلاكية التي رُصد لها 696.675.044.000 ليرة لبنانية، أي ما يوازي 32% من إجمالي النفقات الجارية تتضمّن على سبيل الذكر لا الحصر: لوازم مكتبية (8.6 مليار ل.ل)، قرطاسية للمكاتب (7.1 مليار)، كتب ومراجع وصحف (1.2 مليار)، لوازم مكتبية أخرى (309 مليون)، لوازم إدارية (114 مليار)، ملابس (13.9 مليار)، نفقات تغذية (83.4 مليار)، محروقات وزيوت للمولدات (5 مليار)، محروقات وزيوت للتدفئة (3.9 مليار)، لوازم ادارية أخرى (8 مليار)، نفقات تشغيل وسائل النقل (188 مليار)، محروقات سائلة (156 مليار)، زيوت وشحوم (4.3 مليار)، قطع غيار لوسائل النقل (27 مليار)، ادوية ومواد مخبرية (299 مليار!)، وأيضًا مواد مخبرية (6.4 مليار!)، ادوية (293 مليار)، مياه، كهرباء، اتصالات سلكية ولاسلكية (65 مليار)….
في الواقع هذه الأرقام تُشكّل نقاط سوداء في الموازنة من ناحية حجم الإعتمادات المرصود لها مثل وسائل النقل التي تستهلك أكثر من 225 مليار ليرة ومواد مخبرية تفوق الـ 300 مليار ليرة وأدوية بقيمة 293 مليار ليرة. وهذا الأمر يُظهر أن مجهودًا إضافيًا كان يُمكن القيام به على صعيد النفقات الجارية التي كانت لتوفّر ما لا يقلّ عن 100 إلى 300 مليار ليرة لبنانية.
إضافة الى الشق المُتعلّق بالنفقات الجارية، يُمكن ملاحظة غياب أي خطّة إقتصادية داخل الموازنة. وإذا كان يُمكن إعتبار مشاريع سيدر كجزء من خطّة إقتصادية (وهذا حقّ)، إلا أن غياب هذه الأرقام في الموازنة وغياب بند قانوني يُجيز للحكومة الإقتراض من الدول المانحة في مؤتمر سيدر، يُلغي أي أمكانية لوجود خطّة إقتصادية في العام 2019.
يبقى القول إنه وبغياب أية عوائق على جلسة اليوم، سيشهد نهار الإثنين المُقبل الجلسة الختامية للموازنة في قصر بعبدا بهدف إقرارها وتحويل المشروع إلى مجلس النواب. إلا أن تصريح وزير الخارجية جبران باسيل البارحة بعدم رضاه عن الموازنة يفتح الباب على عديد من السيناريوهات التي قد يكون بعضها قاتماً في ظل التطورات الإقليمية إلا في حال تلقّف رئيس الجمهورية وأصحاب الدوّلة المُشكلة وقاموا بتطويقها كما حصل المرة الأخيرة في لقاء قصر بعبدا.