بعد سنتين من «لحظة الصفر» في تشرين الأول 2019، اتّخذت السلطة السياسية (الحكومة ومجلس النواب) ومصرف لبنان كلّ القرارات المُدمّرة للمجتمع التي كان سيشترط صندوق النقد الدولي تنفيذها مقابل إقراض لبنان الدولارات. نُفّذت الإجراءات بخلفية إنقاذ المصارف وكبار المودعين والنافذين. طريقة إدارة الأزمة أنتجت واقعاً دفع حتّى أعداء صندوق النقد للتسليم بأنّ الاتفاق معه قد يكون إلزامياً للخروج من حالة الانهيار.
قامت السلطات في لبنان بـ«العمل الوسخ»، الذي كانت تُفضّل أن يُنجزه عنها صندوق النقد: رفع الدعم، تخفيض فاتورة الاستيراد بهدف تقليل كمية الدولارات التي تخرج لشراء السلع، تحرير العملة عبر خلق أكثر من سعر صرف لها، التوقّف عن القيام باستثمارات عامة… صندوق النقد الدولي، أو كما يُسمّى «مُقرض الملاذ الأخير»، ليس قدراً. وعلى رغم صعوبة الأزمة اللبنانية ووجود تقديرات بأنّها بحاجة إلى سنوات عديدة لتُحلّ، لكنّها لا تعني أنّ عقد اتفاقية قرض مع «الصندوق»، والخضوع لإملاءاته السياسية، أمرٌ لا مفرّ منه. الخيارات البديلة موجودة، ما ينقصها هو النيّة وهوية السلطة المُمسكة بالقرار. في آخر دراسة أعدّتها «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا ــــ إسكوا» تحت عنوان «الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان، واقع أليم وآفاق مُبهمة» اقترحت بأن يقوم أصحاب الثروات في لبنان «ونسبتهم لا تتجاوز 10% من مجموع السكان»، بتسديد كلفة القضاء على الفقر «من خلال مساهمات سنوية لا تتعدّى 2% من ثرواتهم». هذا واحد من خيارات عديدة، كإصلاح النظام الضريبي وإجبار أصحاب المصارف والمعرضين سياسياً على إعادة الدولارات التي هرّبوها، تُغني البلد عن مُستعمرٍ جديد.
لا يعتقد وزير المالية السابق، والاقتصادي جورج قرم أنّ إبرام اتفاقية قرض مع صندوق النقد الدولي «أولوية. لو كان الأمر يتمّ ضمن برنامج إصلاحي يتضمّن إجراءات تأتي لصالح الطبقات الفقيرة والفئات العاملة، أي برنامج لإعادة إطلاق الحركة الاقتصادية… ماشي الحال، مُمكن اعتباره عندئذٍ يُعيد الثقة للمستثمرين الأجانب والمغتربين لإعادة ضخّ الأموال في البلد. القصّة مرتبطة بالوفد المفاوض، وكم سيتمكّن من تحسين شروط الصندوق المفروضة» فالخيارات الداخلية عديدة. يقول قرم إنّه «يجب فرض قصّ شعر (هيركات) على الودائع الكبيرة فقط. منذ سنوات وأنا أنادي بضرورة تعديل النظام الضريبي المعمول به لزيادة إيرادات الخزينة العامة. لدينا نظام ضريبي كان معمولاً به في فرنسا القرن الماضي، حالياً علينا أن ننتقل إلى توحيد كلّ مصادر الدخل وفرض ضريبة موحّدة عليها، بحسب الدخل الذي يتقاضاه الفرد. إضافة إلى ذلك، يجب فكّ تثبيت الليرة رسمياً وتوحيد أسعار الصرف المتعددة لأنها أكبر جريمة تُرتكب بحقّ الاقتصاد. وإقرار قانون القيود على التحويلات المالية (الكابيتال كونترول)». هذه الأمور أساسية من وجهة نظر قرم، وتُسهم في الانتقال من النظام الريعي إلى بناء اقتصاد مُنتج يُخفّف التبعية للخارج
بقول مدير الأبحاث لدى اتحاد البورصات العربية، الدكتور فادي قانصو أن الخيارات البديلة موجودة، يوجد «احتياطي إلزامي (حساب التوظيفات الإلزامية) لدى مصرف لبنان يُقدّر بحوالى 14 مليار دولار، يضاف إليه احتياطي ذهب بقيمة 17 مليار دولار، وهي مبالغ كفيلة بتمويل برنامج إصلاحي إذا صدقت النيات. طرح الموضوع جدّيّاً يتطلّب وجود رؤية واضحة لمستقبل البلاد واستقراراً سياسياً وميزانية سليمة للمصرف المركزي والقطاع المصرفي وتوافقاً على سياسة مالية وآلية صحيحة لمعالجة الأزمة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحديد حجم الخسائر. ثانياً، يجب تنويع الخيارات الاقتصادية، شرقاً وغرباً، وتحقيق التنمية المستدامة». تجدر الإشارة إلى أن نموّ الاستثمار يُعزّز مكوّن العمالة في النمو الاقتصادي، الذي يتطلّب خلق وظائف جديدة لاستيعاب أكثر من 30,000 لبناني ينضمّون كل سنة إلى القوى العاملة، وخاصةً أن معضلة خلق الوظائف من بين القضايا الأساسية، نظراً إلى أنّ معدل البطالة تجاوز مستويات مقلقة».
رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية – الأميركية، غسان ديبة يقول: في لبنان، مرّ على الأزمة نحو سنتين، وحصل التصحيح عبر خفض الاستيراد بشكل كبير – وهو أمر قاسٍ جدّاً – وتراجع سعر صرف العملة، ولكن لا تزال أزمة النظام المصرفي قائمة والأزمة الاقتصادية مستمرة ولبنان بحاجة إلى الخروج من الأزمة وليس التخفيف منها فقط، وهنا قد يأتي أيّ برنامج مع الصندوق. ولكنّ أيّ اتفاق يجب أن يقوم على عدم فرض الصندوق شروطه القاسية. يمكن الاستفادة من تجربة آيسلندا التي استطاعت حكومتها اليسارية أن تتفادى شروط الصندوق بشكل عام. أمّا الأموال التي يحصل عليها لبنان من الصندوق فتُستعمل لتعافي الاقتصاد، وحلّ معضلة المودعين الصغار فقط، وإجبار المصدّرين على الإتيان بدولاراتهم إلى لبنان، ومنع الطبقة الرأسمالية من شراء الدولارات في لبنان واستثمارها في الخارج. علينا ألّا نقع في شباك برنامج تقليدي للصندوق، بل إجباره في المفاوضات على شروط سهلة يكون أساسها – بالإضافة الى ما سبق – إعادة هيكلة القطاع المصرفي ووضع الضرائب على الرأسمال والربح والثروة».