يومًا بعد يوم، تتزايد الأسلحة القانونيّة التي يجمعها الدائنون الأجانب -من حملة سندات اليوروبوند- ضد الدولة اللبنانيّة، قبل بدء التفاوض معها على إعادة هيكلة الديون. وهذا الواقع، هو تحديدًا ما يفسّر استمرار صبر هذه الفئة من الدائنين، وتأخّرهم في التحرّك قضائيًا في الخارج ضد الدولة اللبنانيّة، بالرغم من مضي ثلاث سنوات وستّة أشهر على تخلّف الدولة عن سداد سنداتها، من دون بدء التفاوض الجدّي بين الطرفين بعد.
أسلحة الدائنين التي تتراكم، هي الخطايا والارتكابات التي مازالت الدولة اللبنانيّة تقوم بها اليوم، والتي ستمثّل أوراق ضغط قانونيّة ضدها في محاكم نيويورك. وهذا ما سيفرض على لبنان لاحقًا القبول بشروط مجحفة لمصلحة الدائنين، عند التفاوض معهم لإعادة هيكلة الديون. وفي واقع الأمر، ثمّة الكثير من المتابعين الذين يشككون بأن ما يجري يتجاوز حدود الهفوات الناتجة عن قلّة معرفة، ما يعني أنّ هناك تآمرًا صريحًا من قبل بعض المسؤولين اللبنانيين على حساب اللبنانيين، لمصلحة الجهات الأجنبيّة النافذة ماليًا، التي تملك سندات اليوروبوند.
ومن المهم جدًا الإشارة إلى أنّ كل ما سيرد ذكره في هذا المقال، على حساسيّته المفرطة، لا يهدف حتمًا لإعطاء الدائنين الأجانب حجج قانونيّة إضافيّة في وجه الدولة اللبنانيّة، بل إلى تصويب الأخطاء الكارثيّة التي ترتكبها الدولة اللبنانيّة في إدارة هذا الملف، وهذا ممكن جدًا ومتاح اليوم. وكاتب هذه السطور لم يكن ليستطرد في شرح التداعيات القانونيّة الخطرة لهذه الأخطاء، والتي سيستفيد منها الدائنون الأجانب، لولا تيقنه –من مصادر موثوقة- من تتبّع كبار الدائنين لهذه الوقائع ومعرفتهم بنتائجها القانونيّة، بمعزل عن نشرنا لهذا التحليل.
الخطيئة الكبرى: التلاعب بأرقام الدين العام
كما بات معلومًا اليوم، قرّر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في الربع الأوّل من هذه السنة، وقبل مغادرة منصبه، إضافة بند في ميزانيّة المصرف المركزي، يرتّب على الدولة اللبنانيّة دينًا جديدًا بقيمة 16.5 مليار دولار أميركي. ما فعله سلامة كان احتساب كل عمليّات القطع منذ العام 2007، أي عمليّات بيع الدولارات لمصلحة الدولة، كديون على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة المصرف المركزي نفسه.
وبهذا الشكل، كان سلامة يحاول رمي جزء من الخسائر المتراكمة في ميزانيّة المصرف المركزي والقطاع المصرفي، على كاهل الدولة اللبنانيّة والمال العام. وكان سلامة قد تذرّع بوجود “تفاهمات شفهيّة سابقة” (؟) مع وزارة الماليّة منذ العام 2007، لتسجيل هذه الديون خارج الميزانيّة، قبل الكشف عنها فجأة هذه السنة، أي بعد 16 سنة.
وكما بات معلومًا أيضًا، لايوجد حتّى اللحظة وثيقة واحدة تؤكّد تفاهم المصرف المركزي ووزارة الماليّة، منذ العام 2007، على احتساب عمليّات القطع كدين على الدولة. بل لم يخرج وزير ماليّة سابق واحد، من الوزراء المتعاقبين منذ ذلك الوقت، ليؤكّد وجود تفاهم من هذا النوع.
وحتّى لو توفّر تفاهم ضمني أو شفهي من هذا النوع، لم يكن سلامة أو مجلس الوزراء يملكان صلاحيّة قيد الديون العامّة بهذا الشكل، لتعارض ذلك مع آليّات الاقتراض المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف، ولتعارضه مع دور المصرف المركزي كمصرف للدولة، الذي يفرض عليه بديهيًا بيع الدولارات للقطاع العام لا قيد عمليّات القطع كديون عامّة.
في جميع الحالات، باتت المشكلة الأساسيّة اليوم عدم مبادرة وزير الماليّة الحالي، يوسف الخليل، لتوضيح هذه المسألة أو تصحيحها، وعدم مبادرة حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري لمعالجة الخطيئة المميتة والقاتلة التي ارتكابها الحاكم السابق رياض سلامة، عبر إلغاء هذا البند في ميزانيّة مصرف لبنان. وهذا التملّص من المسؤوليّة، من جانب منصوري والخليل، سيحمّل الدولة أكلافًا وتداعيات خطيرة خلال الفترة المقبلة.
فحملة سندات اليوروبوند، قاموا بشراء السندات في الماضي وفقًا لنصوص مفصّلة تحدد حجم مخاطر الدولة اللبنانيّة، عند إصدار السندات، بما يشمل التصريح عن حجم الدين العام الإجمالي. وفي جميع تلك النصوص، لم يكن هناك أي ذكر لدين الـ 16.5 مليار دولار، الذي قرّر فجأة رياض سلامة إضافته إلى ميزانيّة مصرف لبنان في الربع الأوّل من العام 2023، على أساس أنّها ديون تراكمت منذ ال2007.
بمعنى أوضح: سيكون بإمكان حملة سندات اليوروبوند توجيه تهمة الغش والاحتيال، للدولة اللبنانيّة، على خلفيّة إخفاء ذلك الدين وتقليص الحجم المُعلن لمخاطر الدولة اللبنانيّة، عند إصدار سندات اليوروبوند. ولعلّ صمت وزارة الماليّة ومصرف لبنان في الوقت الراهن يمثّل دلالة إضافيّة على وجود تواطؤ متعمّد، أو على الأقل غض نظر، من جانب السلطتين التنفيذيّة والنقديّة الحاليّة، تجاه هذه العمليّة التي قام بها الحاكم السابق لمصرف لبنان.
الهدف الأخير لحملة سندات اليوروبوند أمام محاكم نيويورك، سيكون إثبات “سوء نيّة” الدولة اللبنانيّة، باعتبارها ورّطت حملة سندات اليوروبوند في ديون ذات مخاطر مرتفعة، من دون كشف الأوراق التي تشير إلى هذه المخاطر (أي دين مصرف لبنان). ثم سيشير حملة السندات إلى أنّ الكشف عن هذه المخاطر لم يجرِ إلّا بعد التعثّر وتوقّف الدولة عن سداد، ما ضخّم من حصّة مصرف لبنان في الدين السيادي، وهو ما يشير –مجددًا- إلى تلاعب مقصود وخبيث من جانب الدولة.
في خلاصة الأمر، ستكون الدولة اللبنانيّة في موقع قانوني ضعيف أمام الدائنين الأجانب، ما سيفرض عليها تخفيض سقفها التفاوضي في وجههم. وحين نتحدّث عن خفض السقف التفاوضي، فهذا يتعلّق بنتائج ماليّة حسّاسة، مثل قيمة السندات التي ستتم إعادة جدولتها، والفوائد التي ستسددها الدولة لحملة السندات في المستقبل.
بحسب مصادر قانونيّة، الحل الوحيد المتاح أمام الدولة اللبنانيّة لمعالجة هذه الثغرة هو التراجع عن الخطيئة الأساسيّة، المتمثّلة في إضافة دين الـ 16.5 مليار دولار إلى مصرف لبنان. فإضافة هذا الدين المشبوه، الذي لا يستند إلى أي مسوّغ قانوني، لا تخدم سوى هدفين: تحميل الدولة عبء إعادة رسملة القطاع المصرفي عبر تسديد هذا الدين الجائر لمصرف لبنان (ومن ثم المصارف)، وإعطاء الدائنين الأجانب قوّة تفاوضيّة أقوى أمام الدولة اللبنانية في مرحلة إعادة هيكلة الدين العام.
المطالبة بأصول الدولة ومصرف لبنان
الخطيئة المميتة الثانية، هي طريقة تعامل الدولة مع ملف توزيع خسائر القطاع المصرفي، وتحديدًا من جهة الإصرار على فكرة تحميل المال العام كلفة إعادة رسملة المصارف ومعالجة فجوة ميزانيّتها. وهذه الخطيئة تجري اليوم على مستويين:
– على المستوى الأوّل، تصرّ الغالبيّة الساحقة من الكتل المؤثّرة في البرلمان اللبناني على ربط تسديد الودائع بعائدات صندوق مخصص لاستيعاب المرافق والأصول العامّة واستثمارها، ما يعني تسديد خسائر القطاع المصرفي من رسوم هذه المرافق. وهذه الفكرة، ستدفع الدائنين الأجانب للمطالبة بحصّة في هذا المسار، أي في صندوق استثمار المرافق العامّة نفسه. فإذا كانت الدولة ستخصص إيرادات واستثمارات أصولها لتسديد خسائر القطاع المصرفي، فالأولى من زاوية قانونيّة أن تُستعمل هذه الإيرادات -التي كان يفترض أن تصب في الخزينة العامّة- لتسديد الدين الحكومي، لا خسائر المصارف. وهكذا، سيحل مبدأ وضع اليد على الأصول العامّة، مكان فكرة إعادة هيكلة الدين العام.
– على المستوى الثاني، لا يمكن تحقيق فكرة تحميل الدولة خسائر القطاع المصرفي، التي تتبناها معظم الكتل الوازنة في المجلس النيابي، من دون الربط ما بين فجوة مصرف لبنان وماليّة الدولة. وهذا الربط، سيعطي الدائنين الأجانب ورقة ضغط قانونيّة تمكّنهم من الطعن بالاستقلاليّة الماليّة للمصرف المركزي، طالما أنّ خسائره باتت عبئًا على الدولة المدينة أصلًا لحملة سندات اليوروبوند. وهذا ما سيسمح للدائنين الأجانب بمحاولة ملاحقة أصول المصرف المركزي في الخارج، وبالأخص الذهب والاحتياطات الموجودة في المصارف المراسلة.
لكل هذه الأسباب، هناك ما يكفي من معطيات للتوجّس من مستقبل مفاوضات لبنان مع الدائنين الأجانب، ومن نتائج الهفوات القاتلة التي ارتكبتها الدولة اللبنانيّة خلال المرحلة الماضية. ولهذا السبب، ثمّة ضرورة اليوم لمراجعة هذا المسار وتصحيح تلك الأخطاء، عبر التراجع عن التعديلات المحاسبيّة التي قام بها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، والتخلّي عن الأفكار التي تصر على فكرة تحميل الدولة الخسائر المصرفيّة. فتحميل الدولة هذه الخسائر هو مجحف أولًا بحق دافعي الضرائب، وهو خطر ثانيًا على مستقبل التفاوض مع الدائنين الخارجيين، وعلى مستقبل تفاهم لبنان مع صندوق النقد الدولي.