عصام الجردي
تتدحرج الليرة اللبنانية بلا قعر. نتائجها بدأت بإرسال علامات الفوضى الاجتماعية والقلاقل المخيفة. أن تلتقط الليرة أنفاسها الجمعة الماضي بعد تراجع قياسي في شهور، شأن ليس مستدامًا. بل معطى يشير إلى أن سوق القطع التي كانت عطشى إلى الدولار الأميركي، طرأ ما يمكّنها من المضاربات صعودًا وهبوطًا بعدما أتيحت لها دولارات من الخارج باستئناف الرحلات عبر مطار رفيق الحريري ولو جزئيًا. السوق تقول أن الدولار الأميركي المضارب يتلمّس مستويات جديدة. الحؤول دون الوصول إلى الفوضى الخارجة عن السيطرة يقتضي مجرّد قرار إصلاحي بأن لنا دولة كبلاد الله الواسعة. أو مجرّد خبر عن دخول عملات تحتاجها الدولة فورًا. أو مجازفة مصرف لبنان بالدخول في السوق بحرفية عالية لتقليم أظافر المضاربين وحضهم على عرض ما اكتنزوه. لكن مصرف لبنان خرج من الخدمة عمليًا. باقٍ هيكلًا لتمويل الخبز والدواء والوقود وأوَد الحياة اليومية. ولبنان باقٍ لأن الموت لم يأتِ بعد.. وحدهم تماسيح السلطة يمارسون هوايتهم المفضّلة. الكرسي والامتيازات لقاحًا ضد الإصلاح.
لماذا تراجع الجمعة؟
لماذا تراجع سعر صرف الدولار الأميركي الجمعة؟ أسباب ثلاثة على الأرجح. الأول سلوك السوق منحى المضاربة التقليدي. أي تقلب سعر الصرف ارتفاعًا وهبوطًا ليتسنى للمضاربين تنفيذ عمليات مضاربة بيعًا على السعر العالي وإعادة الشراء على سعر أدنى لتحقيق أرباح حقيقية وليس دفترية، والعودة إلى تغطية المركز المالي. السبب الثاني احتمال أن يكون مصرف لبنان قد تدخل في السوق بكميات ساعدت تغيير اتجاه السوق. خصوصًا نتيجة الضغط الذي يتعرض له حاكم المصرف رياض سلامة من الحكومة لوقف تراجع الليرة. وقد أعلن سلامة الجمعة قرار مصرف لبنان فتح الاعتمادات التجارية من خلال المصارف بدلًا من الصرّافين اعتبارًا من اليوم الإثنين. السبب الثالث الأهم، هو أن تبدّل اتجاه السوق جاء بعد أيام ثلاثة على استئناف الرحلات التجارية جزئيًا عبر مطار رفيق الحريري كما سبقت الإشارة، ودخول دولارات أميركية وعملات أجنبية وعربية نقدًا إلى لبنان محمولة يدويًا. وكان لها أثر في السوق للاستهلاك أو لسداد التزامات وخلافها. العوامل الثلاثة معًا لعبت دورها وفتحت الباب للصرّافين والمضاربين لتحقيق أرباح والخروج من الأرباح الدفترية المحققة منذ شهور. الشائعات التي راجت على بعض مواقع التواصل الإلكتروني عن قيود على إدخال العملات الأجنبية نقدًا عبر مطار رفيق الحريري تفرضها جهات رسمية، كانت مؤذية جدًا. نفيها من إدارة الجمارك وغيرها لا يكفي لاستئصال أثرها النفسي البالغ على اللبنانيين والقادمين من الخارج. ملاحقة مروجي تلك الشائعات أفعل من كل الملاحقات والتوقيفات والإجراءات البوليسية التي حصلت في سوق القطع.
بتقنيات سوق القطع، لا يكفي شراء عملة بسعر مخفوض وارتفاع السعر من جديد لتحقيق أرباح. الأرباح الفعلية تتحقق في حال بيع العملة على سعر أعلى من سعر الشراء. وهذا يتطلب عرضًا في السوق يخفض سعر العملة، ويتيح للمضاربين المحترفين العودة إلى الشراء بسعر مخفوض وتغطية مراكزهم. وقت طويل من شهور وسعر صرف الليرة في اتجاه واحد. المضاربون الذين اشتروا الدولار الأميركي بين 2000 ليرة و2500، حققوا أرباحًا كبيرة على جدار 9000 ليرة. لكنها بقيت دفترية. وكان في وسعهم تحقيق أرباح كبيرة لو باعوها عند المستوى المشار إليه. لم يحصل خشية عدم إمكان تغطية مراكزهم من الدولار الأميركي بسعر مناسب، أو اضطرارهم إلى إعادة شرائه بسعر أعلى يبدّد الأرباح المحقّقة. وظروف كهذه استثنائية، ولا تشهدها سوق القطع في بلد ما، إلّا في ظل فقدان الثقة وأزمات مالية وسياسية ونقدية كبيرة. أي حال لبنان في هذه الظروف.
يشبه الأمر زمن الفورة العقارية وارتفاع أسعار العقارات والشقق السكنية. من اشترى على سعر معين تربّح بفورة الأسعار. لكن الربح بقي دفتريًا. تحوّل ماديًا حقيقيًا حين البيع بسعر السوق. لكن الأرباح قد تتبدّد لو قرّر البائع نفسه إعادة شراء شقة أو عقار بسعر السوق الجديد. وقد يتكبد خسائر تفوق مقدار الأرباح التي حققها. فيؤثر الاحتفاظ بالملكية إلى حين أوان التصحيح Correction الذي لا بدّ أن يحصل بآليات السوق نفسها. مبدأ التصحيح بآليات سوق القطع كما في تداول الأسهم، يقوم على أساس أن سقف السعر الذي سجلته السوق لا بدّ أن يتكرر من جديد. فتعود السوق إلى التداول على سقوف جديدة تتقلّب أعلى وأدنى.
إنكشاف على المضاربين
مصرف لبنان لم يتدخل في السوق بالمعني الاحترافي لتدخل المصارف المركزية الذي يتقنه سلامة بخبرته الواسعة في الأسواق. كي يكون التدخل ناجعًا وذا أثر، يجب أن يحصل بعقلية التدخل التجاري وفق ما تتطلبه السوق بائعًا العملات وشاريًا. مصرف لبنان محمي بقانون النقد والتسليف لإتمام عملياته على هذا النحو. هو مصرف لا يتوخى الربح بمقدار ما يهدف إلى الاستقرار النقدي وسعر الصرف. لكن لا يعني أن يخسر من عملياته بالضرورة. أو يكون التدخّل بقرار سياسي يبطل وظيفة مصرف لبنان وينقلها إلى مكان آخر. فمصرف لبنان “يُعتبر تاجرًا في علاقاته مع الغير. ويجري عملياته وفقًا للقواعد التجارية والمصرفية وللعرف التجاري والمصرفي” (المادة 13 من قانون النقد والتسليف).
مصرف لبنان حاليًا في اتجاه واحد لتمويل خطابات الاعتماد بسعر مخفوض للسلع الأساسية. المضارب اطمأنّ لأخطر احتمال قد يرتّب عليه خسارة. وهو تدخل المصرف المركزي عارضًا الدولار الأميركي بوفرة فيكسر السعر. ويضطّر المضارب استلحاق نفسه ببيع على سعر أقلّ للحدّ من الخسائر (Stop Losses) في انتظار جولة ثانية. وفي هذه الحال يمكن لمصرف لبنان أن يعود إلى تغطية مركزه من دون أن يتكبّد خسائر تذكر. من يبيع الدولار الأميركي الآن ومن يشتري ليسيطر على لعبة السوق خارج مصرف لبنان؟ قلة تملك حجمًا كبيرًا من الدولار الأميركي. وكثرة ساحقة تملك حجمًا أقلّ يمكن وصفه وقائيًا. ومعظمه في المنازل.
لم ينكشف مصرف لبنان على المضاربين بتحديد احتياطه من الدولار الأميركي فحسب. بل من الاحتياط الحرّ القابل للتصرّف. وما يملكه للمودعين من توظيفات المصارف لديه. الانكشاف الأخطر هو تنامي الكتلة النقدية بالليرة عشرات التريليونات. وهي عاطلة من العمل استثماريًا. وعاجزة قوة شرائية بالتضخم وارتفاع الأسعار. لا يبقى سوى لعبة الدولار الأميركي الوقائي لمواجهة أسعار الاستهلاك، وللمضاربين يتحيّنون الفرص لتحقيق الأرباح في وطن جفّت عروقه.
المصدر: المدن