جون كونالي، وزير الخزانة في إدارة الرئيس السابق ريتشارد نيكسون، قال لمجموعة من محافظي البنوك المركزية جملته الشهيرة: «قد يكون الدولار عملتنا نحن، ولكنه مشكلتكم أنتم».
هذا صحيح كما كان دوماً، حيث تثير قوة الدولار بعض المشاكل في الخارج، لكنه لا يسبب ضرراً للاقتصاد الأميركي بشكل عام.
تشير الأوضاع الحالية إلى أن مؤشر بلومبرغ للدولار الفوري يحوم قرب أعلى مستوياته في خمسة أشهر، بعد تحقيق مكاسب كبيرة في الأشهر الأخيرة مقابل معظم العملات الرئيسية، بما فيها الوون الكوري الجنوبي والين الياباني والفرنك السويسري.
وقد دفع ذلك وزير المالية الكوري الجنوبي تشوي سانغ موك ونظيره الياباني شونيتشي سوزوكي الأسبوع الماضي للتعبير عن «مخاوف جدية». لكن على عكس الحالات السابقة، فإن نوبة الدولار القوي الأخيرة ليست شيئاً يدعو للخوف بشكل عام على مستوى أميركا أو العالم.
ملاذ آمن
عندما يصبح العالم مخيفاً أو غير مستقر، يتهافت المستثمرون نحو الدولار، وهو ما يجعل ارتفاع قيمته في بعض الأحيان تبدو إشارة تحذيرية. فعلى سبيل المثال، ظهرت مصداقية الدولار كملاذ آمن في الأيام الأولى لتفشي الجائحة، وفي التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016. ومع ذلك، لم تكن هذه هي القصة الرئيسية في المرحلة الحالية، ولإثبات ذلك، أنظر إلى العملات التي ارتفعت قيمة الدولار مقابلها هذا العام، والتي تُعرف بعملات الملاذ الآمن الأخرى. كان أداء العديد من العملات التي هي عرضة للمخاطر مثل البيزو المكسيكي والدولار الكندي جيداً نسبياً.
في الواقع، تعتبر قوة الدولار الحالية في الغالب انعكاساً مباشراً للفروق في أسعار الفائدة. وفي ظل التوقعات التي تفيد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيبقي أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول من أقرانه، فإن تسعير السوق يشير إلى أن عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 أعوام أعلى بعدة نقاط مئوية من نظيراتها في الأسواق المتقدمة. أضف إلى ذلك الأداء المتفوق لسوق الأسهم الأميركية، ليتضح أن التدفقات تنبع في المقام الأول من السعي المتزايد نحو الربح، بدلاً من تكديس السيولة النقدية بسبب الخوف. وربما يتعين عليك العودة إلى أواخر التسعينيات للعثور على فترة أخرى كان فيها الدولار قوياً بشكل موثوق لأسباب وجيهة.
هل هذا سيئ بالنسبة للولايات المتحدة؟ بشكل عام، ربما لا. فعلى صعيد أسعار المستهلك، يعمل الدولار على كبح أسعار الواردات ومنع التضخم من الخروج عن نطاق السيطرة مجدداً. ويمكن للشركات متعددة الجنسيات التي انخفضت إيراداتها من الأسواق الخارجية أن تجد العزاء في معرفة أن سوقها الرئيسية لا تزال قوية، حيث توقع الاقتصاديون الذين استطلعت «بلومبرغ» آراءهم نمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 2.5% في الربع الأول على أساس سنوي.
تأثير ارتفاع الدولار
يؤثر ارتفاع الدولار تأثيراً سلبياً ملموساً على القدرة التنافسية للشركات الصناعية في «الاقتصاد القديم»، مثلاً صناعة المنتجات الورقية والسيارات، بجانب أنه قد يعيق حلم عودة أميركا إلى أيام مجد خطوط التجميع. لكن الآثار السلبية تكون أقل تأثيراً على الشركات العاملة في الصناعات المتقدمة مثل الفضاء والصناعات الدوائية وأشباه الموصلات، وجزء كبير من المشهد الاستهلاكي الحديث، التي تلعب جميعها أدواراً بارزة في سوق الأسهم الأميركية اليوم.
في الواقع، تتمتع أسهم الفئات الثلاث الأخيرة بأداء جيد عندما يكون الدولار قوياً مع ثبات كافة العوامل الأخرى، وفقاً لبحث أجراه الاقتصادي ويلم ثوربيك. كما أوضح في ورقته البحثية أن الشركات المصنعة للمنتجات التكنولوجية المتقدمة ربما تتمتع بقوة سوقية أكبر تجعل أنشطتها أقل تأثراً بالتسعير.
وبالطبع يمكن دائماً أن يتحول ارتفاع الدولار سريع النمو إلى شيء أكثر خبثاً ويدفع الناس للعزوف عن المخاطرة. فقد اختبر المستثمرون «ارتفاع الدولار السيئ» وسط تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران، لكن هذه لم تكن المشكلة الكبرى بالنسبة لأسعار الصرف. وجاء ارتفاع الدولار على حساب اقتصادات الأسواق المتقدمة الأخرى، بشكل أكبر من الأسواق الناشئة، رغم وجود استثناءات يمكنها التعامل مع الضغوط دون إثارة أي نوع من الأزمات.
وكما لاحظ مؤخراً زميلي دانيال موس، من «بلومبرغ أوبينيون»، فنحن بعيدون تماماً عن الظروف التي تسببت في الأزمة المالية الآسيوية، إذ تحول مرونة أسعار الصرف اليوم دون الوقوع في خطر الانهيارات، كما تدير البنوك المركزية احتياطياتها وسياسات أسعار الفائدة إدارة أكثر استراتيجية.
إرتفاع غير مستدام
السبب الأخير الذي يبقيك مطمئناً بشأن قوة الدولار هو أنها على الأرجح لن تدوم. فما يحدث في الغالب انعكاس لفروق أسعار الفائدة بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، وما زلت آمل وأتوقع التوجه نحو خفض الفائدة في وقت لاحق من العام، عندما يحصل صُناع السياسة في بنك الاحتياطي الفيدرالي على بيانات انحسار التضخم التي يحتاجونها لبدء عملية الخفض. تُعد الولايات المتحدة قوة هائلة في الاقتصاد العالمي، إذ تُمثل نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي وحوالي نصف القيمة السوقية للأسهم العالمية. وهذا يعني بشكل ما إنها المتغير الأهم بلا منازع بالنسبة للاقتصاد العالمي.
وكما لاحظ وزير الخزانة في عهد نيكسون أن الدولار ربما يمثل مشكلة بسيطة لبعض الاقتصادات، لكن بالنظر إلى الصورة الكبرى للأمور، فإنه لن يشكل على الأرجح رياحاً معاكسة عالمية مثيرة للمشاكل داخل البلاد.