في اقتصاد مدولر بنسبة 80 الى 90 في المئة، وفي ظلّ الانهيار المتواصل للعملة المحلية وغياب السياسات المالية والاقتصادية اللازمة لاستقرار سعر الصرف، ومع تحوّل معظم المعاملات التجارية الى الدولار فضلاً عن رواتب وأجور القطاع الخاص، بالاضافة الى السماح بدولرة رواتب القطاع العام عبر منصة صيرفة، بدأ الحديث عن امكانية بلوغ لبنان الدولرة الشاملة، حيث لم يعد سوى القطاع العام يعتمد على الليرة اللبنانية لتقاضي الرسوم والضرائب والغرامات وغيرها…
لكن هل فعلاً لم يعد للعملة الوطنية أي قيمة أو جدوى من استخدامها وبات مستحيلا تعويمها؟ وهل الحلّ هو بالدولرة الشاملة او باعتماد مجلس النقد؟ وهل يمكن تطبيق ذلك المجلس في لبنان حالياً؟ ماذا عن الحسابات المصرفية وسندات الخزينة وديون الدولة للقطاع الخاص بالليرة؟ وماذا عن الكتلة النقدية بالليرة الموجودة في السوق؟ كيف ستتم دولرتها وبأي ثمن؟ كيف سيتمكن مصرف لبنان من طباعة العملة المحلية لتغطية النفقات الحكومية في ظل عدم القدرة على الاستدانة من الاسواق العالمية؟
وإذا فقد مصرف لبنان أهم أدواته (العملة المحلية) لحلّ الازمة المصرفية، ماذا سيحلّ بأموال المودعين؟ كيف ستتمكن الدولة من تسديد نفقاتها بالدولار وميزان المدفوعات في عجز متواصل منذ 2011؟
الحاج: يريدون معالجة تشوّهات تسبّبوا بها
في هذا السياق، اعتبر المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي د. محمد الحاج ان كافة الاجراءات الاقتصادية والمالية والتعاميم الصادرة عن مصرف لبنان التي تم اتخاذها وتطبيقها، لم تنجح سوى في زيادة التشوّهات بالاقتصاد وزيادة نسبة الفساد لاكثر نظام فاسد في التاريخ الحديث.
وأشار الحاج لـ»نداء الوطن» انه بدلاً من ان تتعامل السلطة مع الازمة بشكل شامل وتطبق برنامج انقاذ مع صندوق النقد الدولي منذ بداية الازمة، فضّلت اتخاذ التدابير العشوائية والمجتزأة، مما أدّى الى مزيد من التشوّهات بالاقتصاد. وما يطرحه المسؤولون اليوم مثل التسعير بالدولار او غيرها من الاجراءات، هي محاولة لمعالجة التشوّهات التي تسببوا بها وليست حلولاً جذرية للمشاكل الجوهرية، «بل بدعة لبنانية جديدة على غرار البدع الاقتصادية التي طبّقوها سابقاً».
مجلس النقد خيار مستحيل الآن
وشرح ان الدولرة الشاملة او انشاء مجلس للنقد في لبنان لم يعودا قابلين للتطبيق حالياً، «وقد أضاع لبنان هذه الفرصة التي كانت واردة مع بداية الازمة، رغم تحفّظي على هذا الاقتراح».
موضحاً ان مجلس النقد يعتمد على عدم طبع عملة محلية جديدة ما لم تقابلها القيمة نفسها من الدولارات او اي عملة اجنبية ضمن احتياطي البنك المركزي. وبالتالي فان مجلس النقد ينصّ على ان توازي القاعدة النقدية بنسبة 100 في المئة، قيمة احتياطات مصرف لبنان من العملات الاجنبية، مما يؤدي الى تحديد سعر الصرف.
وأكد الحاج ان إنشاء مجلس النقد لم يعد ممكناً اليوم لان المعروض النقدي في ارتفاع متواصل نتيجة عجز الموازنة المغطى بطباعة العملة، في وقت لا يزال البنك المركزي يسدد مطلوبات المصارف التجارية (ودائع المصارف بالدولار لدى البنك المركزي)، بالليرة اللبنانية. بالاضافة الى ذلك، فان انشاء مجلس النقد يتطلب اعادة هيكلة شاملة لمصرف لبنان، وتعديل لكافة القوانين النقدية.
وسأل: في حال انشاء مجلس النقد اليوم من خلال استخدام احتياطي البنك المركزي، كيف سيؤمن الاخير ودائع البنوك التجارية بالدولار؟
لا بديل عن صندوق النقد
كما أشار الى ان اعتماد التسعير بالدولار في القطاع العام، أمر غير وارد لان الدولة لا تملك ايرادات بالدولار لتسديد نفقاتها أبرزها الرواتب والاجور، كما ان ايراداتها الضريبية لا تغطي نفقاتها حتّى لو تم تسعيرها بالدولار.
واعتبر الحاج ان قرارات التسعير بالدولار وغيرها من الاجراءات العشوائية التي اتخذت منذ تشرين الاول 2019 لم تؤدِ سوى الى تدمير الاقتصاد اللبناني، وبدلاً من تضييع المزيد من الوقت والعمل على آليات من قبل وزارة المالية والاقتصاد لكيفية التسعير بالدولار، «ليستغلوا هذا الوقت في اعداد برنامج اصلاح شامل مع صندوق النقد الدولي بعيداً عن فلسفات السياسيين التي تروّج الى ان برنامج الصندوق هو برنامج سياسي سيؤثر على الطبقة الفقيرة، في وقت قضت السلطة نفسها على الطبقة الفقيرة والمتوسطة». مشدداً على ان الطريقة الوحيدة لضبط التضخم هي باعتماد برنامج انقاذ شامل مع صندوق النقد تكون فيه السياسات المالية والنقدية والاقتصادية متناسقة. مشيراً الى تجربة عدد من الدول التي حاولت الخروج من ازماتها من دون مساعدة خارجية وفشلت، لتعود الى اعتماد برنامج صندوق النقد الدولي لانه الخلاص الوحيد لتحقيق استقرار في الاقتصاد الكلي.
وفي الختام، اعتبر الحاج ان القرارات الخاطئة التي اتخذها السياسيون أوصلت البلاد الى ما هي عليه اليوم وتُرجمت انهياراً في سعر صرف الليرة وبؤساً في الاوضاع الاجتماعية لكافة الطبقات.
الخوري: الليرة تفقد من وظائفها منذ 1984
من جهته، رأى الخبير الاقتصادي د. بيار الخوري انه عندما نتحدث عن الدولرة يجب التمييز بين نوعين منها: الدولرة التي تحصل بقوّة العنصر الاقتصادي اي بقوّة عمل الاسواق بما في ذلك الانتاج والتوزيع والربح، والدولرة التي تحصل بقرار صادر عن مرجعيات حكومية رسمية.
واعتبر الخوري لـ»نداء الوطن» ان نوعي الدولرة المذكورين قائمان اليوم في لبنان، حيث بدأت الدولرة تدريجياً مع فقدان العملة الوطنية لوظائفها الثلاثة الاساسية منها وظيفة وحدة قياس قيمة السلع والخدمات المفقودة منذ 1984 حيث ان العقلية الرائجة تعتمد التسعير واحتساب كلفة السلع بالدولار وليس بالليرة التي طالما اعتبرت وسيطاً ثانوياً في التبادل. أما الحفاظ على قيمة الليرة، وهي الوظيفة الثانية، فقد انتهى مرّتين، الاولى في 1984 والثانية في 2019 وصولاً لما آلت اليه قيمة الليرة اليوم.
قال: أما الوظيفة الثالة فهي وسلية الدفع التي فقدت أيضاً بشكل شبه كامل حيث بدأ السوق منذ اندلاع الازمة، بالدولرة إن المباشرة او غير المباشرة، الى ان أصبحت دائرة الدولرة المباشرة تتوسّع بفعل عوامل السوق، لتبدأ الدولة أيضاً بإدخال آليات الدولرة في احتساب القيمة، «وهو الامر الاكثر أهمية في هذه المرحلة: الدولة تعمد الى تسعير خدماتها على سعر صرف منصة صيرفة أي انها تلجأ الى الدولرة».
أضاف: إن قرار تسعير المواد الغذائية في السوبرماركت بالدولار هو أيضاً جزء من هذا المسار الاداري الذي تعتمده الدولة باتجاه الدولرة.
ورغم ان الخوري اشار الى الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر صرف منصة صيرفة وسعر السوق الموازي، «إلا ان الاتجاه العام واضح نحو تحرير كافة الاسعار بما يتناسب مع السعر الحرّ لليرة، باستثناء الرواتب والاجور. وهنا تكمن المشكلة الاكبر، حيث ان القطاع الوحيد الذي لا يزال غير مدولر هو سوق العمل الذي يقوم على تسديد الرواتب إما بالليرة كاملة او جزئياً بالدولار باستثناء البعض القليل من المؤسسات الذي يسدد كامل الرواتب بالدولار».
المسألة متعلقة بجملة مصالح
وبالنسبة لاستحالة الدولرة الشاملة في لبنان، اعتبر الخوري ان ذلك مرتبط بمصالح قائمة على تعدد اسعار الصرف والفارق بينها، وبين السعر العائم او سعر السوق السوداء. مشيراً الى ان منصة صيرفة هي اكبر دليل على المصالح الكبرى المتأتية من تعدد سعر الصرف، حيث يبيع البنك المركزي الدولارات على سعر منصة صيرفة ويشتري على سعر السوق الموازي. كما ان مجموعة مصالح اخرى مستفيدة من تعدد الصرف تقوم على احتساب الضرائب. في المقابل، في حال تم التحوّل الى الدولرة الشاملة في لبنان، اعتبر «ان البلاد لن تتمكن في المستقبل من السيطرة على حجم الإنفاق والاسعار مهما بلغت، وبأي شكل من الاشكال، لان ضخ السيولة او سحبها من السوق يتوقف على وجود عملة وطنية، وبالتالي عند حدوث هذا السيناريو يصبح لبنان يلعب دور عبودية للسياسة النقدية الاميركية، وسيصبح بحاجة الى مختلف انواع العملات الاجنبية في اي استثمار اقتصادي تنموي قد يزمع القيام به في المستقبل في حال قيام دولة اصلاحية. وبالتالي قد يعتبر البعض ان الدولرة الشاملة مفيدة في الوقت الحالي، إلا انها على المدى الطويل بمثابة الخضوع للسياسة النقدية الاميركية «كوننا لا نستطيع طباعة الدولارات لتمويل اي مشروع».
التجربة الإكوادورية أثبتت أن الدولرة خيار فاشل 100%
في العام 2000، تخلت الإكوادور عن عملتها المحلية الـ»سوكري» واعتمدت الدولار الأميركي بدلاً عنها كعملة رسمية للبلاد، من دون أي خطة او دراسة او سياسة لتدارك تداعيات وعواقب هذا القرار. ففي محاولة لدعم اقتصادها المهترئ وإنقاذ نظامها المصرفي المتعثر، فقدت الإكوادور إلى الأبد استقلالها النقدي، واستغنت عن حقها في طباعة أموالها الخاصة. وأصبحت تعتمد فقط على شركاتها لجني ما يكفي من الدولارات من مبيعاتها في الخارج، لتأمين الدولارات اللازمة لإدارة الدولة.
تم تبليغ الإكوادوريين بأن لديهم مهلة 6 أشهر لمبادلة حيازاتهم من الـ»سوكري» بالدولار الأميركي، وأنه بعد انقضاء هذه المهلة ستصبح عملتهم المحلية التي يقترب عمرها من 115 عاماً مجرد ذكرى.
حددت الحكومة سعر صرف عملتها المحلية عند 25 ألف سوكري لكل واحد دولار أميركي. ووفقاً لبيانات المركزي الإكوادوري، تم استبدال نحو 95% من المتداول من السوكري، وهو ما عادل نحو 500 مليون دولار أميركي، في خلال الأشهر الثلاثة التي تلت إعلان الدولار عملة رسمية للبلاد.
بحلول نيسان 2000، أي بعد أقل من شهرين من اعتماد الدولار، كانت معظم أجهزة الصراف الآلي في الإكوادور تعمل فقط على صرف العملة الأميركية. وفي نفس الوقت، بدأت المحال التجارية تسعر جميع المنتجات بالدولار.
إستمر الوضع الاقتصادي للبلاد في التحول من سيئ إلى أسوأ، ليقترب معدل الفقر في عام 2007 من حوالى 70% من السكان، وفقاً لتقديرات الحكومة الأميركية. وهذا ما دفع البعض لوصف خطوة الدولرة بأنها عملية احتيال على شعب يائس.
أفقدت الخطوة البنك المركزي الإكوادوري مكانته كملاذ أخير لإقراض النظام المصرفي للبلاد، حيث إنه لم يعد بمقدوره طباعة العملة لإنقاذ البنوك المتعثرة. لذلك، أنشأت الحكومة صندوق طوارئ دولارياً، وألزمت البنوك المحلية بوضع 1% من قيمة ودائعها في ذلك الصندوق. ولكن في حال استنزفت موارد ذلك الصندوق، فإن البنك المركزي لا يمكنه فعل أي شيء لإنقاذ النظام المصرفي للبلاد.
تحولت الإكوادور في العقد الأخير إلى مرتع للمهاجرين غير القانونيين من بيرو وكولومبيا القادمين إليها بحثاً عن الدولار، ليزاحموا سكان البلاد حيث يعاني جزء كبير منهم من البطالة.
في الخلاصة، فان ما استدركته القيادة السياسية في الإكوادور طوال السنوات التي تلت اعلان الدولرة الشاملة في البلاد، هو ان الدولار الأميركي أو غيره من عملات العالم لا يمكنه أن يحل بمفرده المشاكل الهيكلية التي أوصلت الاقتصاد إلى حالته المزرية، والتي تمثلت في الفساد وسوء الإدارة وانعدام الثقة، وذلك على غرار ما يحصل في لبنان تماماً!