لم يبقَ في الاقتصاد ما يُتداول بغير الدولار إلا الإيرادات العامة، علماً أن بعضها مسعّر وفق سعر صرف الدولار المعتمد رسمياً (89500 ليرة مقابل الدولار). باستثناء ذلك، أصبحت الدولرة النقدية تمثّل الجزء الأكبر من التعاملات التجارية الجارية، وهو ما أفقد الليرة دورها كوحدة تبادل في الاقتصاد. خطورة الدولرة أنها أفقدت لبنان السيادة المالية والنقدية بكل أدوات السيطرة المتصلة بكل أشكال التدخّل في السوق، سواء بهدف زيادة التنافسية المحلية أو للسيطرة على التضخّم… ستتراجع فعالية أدوات الحكومة، ولن يعود للسياسة النقدية قدرة على التحكّم بالكتل النقدية، وهذا ما يثير سؤالاً أساسياً: هل يمكن العودة عن الدولرة إلى استعمال الليرة؟تاريخياً، كان لبنان فيه نسبة مرتفعة من الدولرة تظهر في حجم الشيكات المتقاصة لدى مصرف لبنان وفي سهولة التسديد بالدولار والاقتراض به، إنما بعد الانهيار الأخير في 2019، اتّخذت الدولرة شكلاً نقدياً. في البداية، كان تخزين الدولارات النقدية لحماية المدخرات والأصول من تدهور القوّة الشرائية، أهم شكل من أشكال الدولرة المستجدّة، إنما فُتح باب جديد لها بعد صدور قرارات متتالية اعتباراً من نهاية الدعم، من وزراء الطاقة والسياحة والاقتصاد تسعّر السلع التي تحدّدها الدولة بالدولار النقدي، وتتيح بيع السلع والخدمات في سائر القطاعات بالدولار النقدي. تدريجياً، أصبحت السوق كلّها تعتمد الدولار كوحدة تبادل بدلاً من الليرة. حتى إن رواتب العاملين في القطاع العام، ولأسباب ذات خلفية متصلة بالسياسة النقدية، أصبحت تدفع بالدولار النقدي. هذه القرارات نقلت الاقتصاد إلى مرحلة جديدة كلياً؛ الحديث هنا ليس عن الفرق بين الدولرة الجزئية والكلية، أو تغلغل الدولرة بشكل عمودي في الاقتصاد (عمق الانغماس في الدولرة)، بل هو عن انتشارها بشكل أفقي، أي تعدّد استخداماتها.
الواقع الجديد جعل الليرة أقل طلباً في السوق، وهو ما سمح للمصرف المركزي بسحب كتلة كبيرة من العملة المحلية من السوق. إذ انخفضت الكتلة النقدية في التداول من نحو 83 تريليون ليرة في شباط 2023 إلى 59.8 تريليون ليرة في نهاية نيسان 2024. هذا ما سهّل «التثبيت الوهمي» لسعر صرف الليرة مقابل الدولار على سعر 89500 ليرة وسطياً، وهو الأمر الذي يتغنّى به حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. فمن دون الغرق في الدولرة، لم يكن ممكناً سحب السيولة بالليرة.
غير أن هذا السلوك الذي يظهر علناً على شكل «استقرار نقدي» يأتي بثمن مرتفع وبمخاطر عالية. فالحديث عن اعتماد البلد على الدولار كعملة ميهمنة على الاقتصاد، يعني بشكل أو بآخر التخلّي عن السيادة النقدية في البلد، وهو ما يُترجم من خلال القدرة على تطبيق سياسات نقدية فعّالة في الاقتصاد من قبل صانعي السياسة النقدية المحليين. وبحسب باتريك هونوهان وأنجينج شي في ورقتهما البحثية «دولرة الودائع والقطاع المالي في الاقتصادات الناشئة»، فإن الدولرة تؤثّر على فعالية السياسة النقدية لأنها تزيد من انعكاس التغيّرات في سعر الصرف على الأسعار المحلية. بمعنى أوضح، إن إحدى أبرز وظائف المصرف المركزي هي إصدار النقد، وأبرز مهامه السيطرة على التضخّم من خلال التدخّل في السوق. هذا التدخّل يتم بواسطة الليرات، فيتمّ ضخّها عند الحاجة أو يتم سحبها، ما يضغط على الكتلة النقدية التي بدورها تؤثّر على مسار الاستثمار بكل ما فيه من أسعار وأجور وفرص عمل… هكذا ينتقل النظام من حالة التناغم المفترضة بين السياسة النقدية والسياسة المالية إلى حالة التناقض بينهما. تناقض الأهداف وسط خسارة الأدوات لا بدّ أن تظهر نتائجه بشكل أو بآخر. في لبنان، ظهر الأمر على شكل تضخّم هائل ومستمر في الأسعار، تراجع لا مثيل له في القدرة الشرائية، تقلّص في الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو الثلث، تراجع في الاستثمارات إلى 0.9% من الناتج، فضلاً عن البطالة والهجرة.
وبحسب مساهمة توماس بالينو، في كتاب «التطورات الحالية في القانون النقدي والمالي» الذي نشره صندوق النقد الدولي في 2003، فإنه من وجهة نظر صانعي السياسات «الدولرة الجزئية تجعل تنفيذ السياسة النقدية أكثر صعوبة، ويصعب التنبؤ بتكوين الكتل النقدية في الاقتصاد». على سبيل المثال، يكمل بالينو، «إذا ظلّ الطلب على إجمالي الكتلة النقدية الموسّعة (الذي يشمل العملات الأجنبية) مستقراً، فإن التحوّل في الطلب من العملة الوطنية إلى الدولار سوف يميل إلى انخفاض سعر الصرف ورفع الأسعار بالعملة الوطنية. علاوة على ذلك، في حين أن السلطات النقدية قادرة على تغيير حجم الكتلة النقدية بالعملة المحلية، فإنها لا تستطيع السيطرة على الكتلة النقدية الأجنبية.
من ناحية أخرى، تسهم الدولرة في انكشاف الاقتصاد على التدفقات المالية من الخارج، كما يقول بالينو. صحيح أن هذا الانكشاف موجود في لبنان منذ ما قبل الأزمة، إلا أنه أصبح أكثر تطرفاً بعد بداية الأزمة، وخصوصاً مع دولرة كل شيء في البلد. الدولرة تساهم في تكريس هذا الأمر. ومع صعوبة التخلّص من الدولرة، يبقى لبنان في دوامة الاعتماد على هذه التدفقات، ويُصبح صعباً التخلّص من هذا الاعتماد المفرط على رأس المال القادم من الخارج. الفكرة هي أن تخفيف الاعتماد على التدفقات المالية يحتاج إلى إصلاح الميزان التجاري من خلال زيادة التصدير، أو استبدال الاستيراد، لكن الدولرة تُصعّب هذه المهمة. فبحسب بالينو، تحوّل الأجور إلى الدولار، يجعل مستحيلاً على الدولة خفض قيمة العملة كأداة لاستعادة القدرة التنافسية، لأن هذا الأمر لن ينعكس على الأجور، وبالتالي لن يرفع القدرة التنافسية، وهو ما قد يعني خسارة أداة لإدارة الاقتصاد الكلي، أو قد يتطلب خفض قيمة العملة (والتضخم) بشكل أكبر لتحقيق النتيجة المرجوّة.
إذاً، ما هي فرص الخروج من الدولرة التي تشبه خلايا «السرطان» في جسم الاقتصاد الوطني؟ الواقع أن الدولرة عملية لا يمكن عكسها بسهولة. فبحسب غيرهارد أشينغر، في دراسة بعنوان «مجلس العملة، الدولرة أم أسعار الصرف المرنة في الاقتصادات الناشئة؟ تأملات في الأرجنتين»، لا يمكن تراجع الدولرة إلا بكلفة عالية للغاية. وهذا الأمر يؤكده الباحثان أندرو بيرج وإدواردو بورنشتاين، في دراسة بعنوان «الدولرة الكاملة: الإيجابيات والسلبيات» التي نشرها صندوق النقد الدولي، إذ يشيران إلى أن السمة المميزة الرئيسية للدولرة أنها دائمة أو تكاد تكون كذلك، كما أن عكس اتجاه الدولرة، أو التخلّص منها، أصعب كثيراً من «الحلول النقدية الأخرى مثل مجلس النقد».
الكلفة لا تكمن في صعوبة العودة إلى استعمال العملة الوطنية، بل في أنّ لها تأثيرات اقتصادية بعيدة المدى. أي تحوّل اقتصادي يراد إرساؤه، سيصبح عملية معقدة وصعبة وسط انعدام فعالية الأدوات التي يمكن أن تستخدمها الدولة لتحويل الاقتصاد نحو نموّ أكثر استدامة. وهذا الأمر يصبح أكثر تعقيداً وصعوبة في الحالة اللبنانية مع الإفلاس الجماعي للمصارف التي كانت تعدّ إحدى قنوات وصول المصرف المركزي إلى السوق لتطبيق استراتيجياته.
درجات الدولرة
تمتد الدولرة الجزئية على ثلاثة أمور تنطبق في لبنان بحسب تعريف صندوق النقد الدولي:
– الدولرة المالية المعروفة أيضاً باستبدال الأصول، وهي التي تؤدي إلى استخدام العملات الأجنبية كحافظ للقيمة أو وحدة حسابية للعقود المالية. وتحدث الدولرة المالية كردّ فعل على التقلبات الكبيرة في معدلات التضخم، ما يؤثر على الفرق في تقلّب العائدات بين الأصول المقوّمة بالعملة المحلية والأصول المقوّمة بالعملة الأجنبية.
– دولرة المعاملات، والمعروفة باسم استبدال العملة، وهي تشير إلى استخدام العملات الأجنبية كوسيلة للدفع. وهو أمر شائع في الاقتصادات ذات المستوى المرتفع من التضخم، حيث ترتفع كلفة الفرص الضائعة في حال الاحتفاظ بالعملة المحلية.
– الدولرة الحقيقية التي تشير إلى الربط الرسمي أو الفعلي للأجور أو الأسعار المحلية مع التغيرات في سعر الصرف بين العملة المحلية والدولار
23 تريليون ليرة
هو التراجع في كمية الليرات المتداولة في السوق بين شباط 2023 ونهاية نيسان 2024، وهو ما يمثّل انخفاضاً بنسبة 27%
9.8 مليارات دولار
هو حجم اقتصاد الكاش بالدولار في لبنان في 2022 بحسب البنك الدولي، وهو ما يمثّل 46% من الناتج المحلّي في تلك السنة، وقد يكون هذا الرقم قد ارتفع في السنوات الماضية بسبب ارتفاع حجم الدولرة في البلد