يبدو أن أزمة فايروس كورونا جعلت من الذهب الملاذ الآمن للمستثمرين والدول. وحسب تقرير صادر عن شبكة “بلومبورغ” الأميركية، فقد تضاعف سعر أوقية الذهب 45 مرة عما كان عليه في العام 1970، ومن المرجح أن يزداد سعرها في الفترة المقبلة، لاسيما مع استمرار الأزمة الوبائية في العالم.
ويعتقد الخبير المالي الإيطالي، ستيفانو بوتايولي، أن الذهب لم يكمل بعد مستوى ارتفاعه، متوقعا مرحلة تحيينية في الأسابيع المقبلة إلى 1850 دولارا كحد أقصى، لكنه يراها، في المحصلة، مجرد بداية لحركة صعودية جديدة ستتخطى ما يزيد عن 2200 دولار بحلول آخر 2020.
ويرى المحلل المالي، في حديـث لمجلة “بـاب” المغربية، أن حركة صعود سعر الذهب يتوقع أن تصل إلى 4600 دولار على المدى البعيد.
وأشار مستشار الاستثمار ببنك كونسوليا في إيطاليا، إلى تزايد عدم الثقة في قيمة الدولار، الذي يرتبط عكسيا بالذهب ويبدو أنه يسير، بصرف النظر عن بعض الارتدادات قصيرة الأجل، في اتجاه تراجعي لفترة طويلة، كأحد العوامل المساهمة في هذا الارتفاع.
وترسل الجائحة إشارات مماثلة لما حدث منذ 12 سنة، بعد أزمة الرهن العقاري لعام 2008، حيث كان سعر الذهب قد حطم بالفعل أرقامه القياسية، ما جعل المستثمرين يهرولون صوب المعدن الأصفر لحماية جزء من ممتلكاتهم في انتظار هدوء العاصفة، فيما زاد طلب المستهلك على السبائك والعملات بشكل ملحوظ.
وبعد الانخفاض السريع لسعر الذهب خلال انهيار سوق الأسهم منتصف مارس، قفزت قيمة المعدن الأصفر، في الرابع من أغسطس الماضي، وصولا الى مستوى 1550 دولارا للأوقية، وذلك للمرة الأولى منذ أكثر من ست سنوات، نتيجة تهافت المستثمرين على الأصول الآمنة، التي عادة ما يتم اللجوء إليها أثناء الأزمات الاقتصادية لما تتميز به من استقرار وجاذبية أكثر للراغبين في تأمين جزء من أصولهم.
وفي سياق أزمة فايروس كورونا، ضعف مؤشر التضخم بشكل كبير وتمت مواجهة التطورات الانكماشية الهائلة باعتماد إجراءات نقدية ومالية صارمة.
ومن اللافت، حسب الخبير الإيطالي، أن الأداء المتفوق لأسهم الذهب يعتبر نذير خطر على ظهور مستوى تضخم أعلى على المدى المتوسط، متوقعا أن تتفوق الفضة بدورها على مؤشرات السلع الأساسية.
ومن جهته، يعتبر الباحث التونسي بالمعهد العالي للتسيير بقابس، خالد مكني، أن من بين العوامل الرئيسية التي تؤثر على الذهب، سعر الفائدة، الذي كلما ارتفع، انخفض سعر الذهب، خصوصا في ظل لجوء المستثمرين إلى السندات الحكومية وفئات الأصول الأخرى التي تظل عائداتها مرتبطة بأسعار الفائدة، مشيرا إلى أن أهم سعر فائدة في العالم يحدده البنك المركزي الأميركي الذي يعتبر الحكم الرئيسي في الأسواق العالمية.
ويفسر الباحث أن إنتاج الذهب يرتفع وينخفض مع مرور الوقت، كأي سلعة أخرى، والأمر نفسه بالنسبة لمستوى الطلب؛ إذ غالبا ما يكون موسم الأعياد في الهند والصين فترة رئيسية لتزايد الطلب على الذهب.
ومن بين “الملاذات الآمنة”، يواصل الذهب رحلة الارتفاع خلال فترات الركود وأزمات سوق الأسهم. وهذا ما تؤكده خبيرتا الاقتصاد؛ فيرجيني كودرت وهيلين ريموند، في مقال نشر عام 2012 تحت عنوان “هل الذهب ملاذ آمن خلال فترات الركود وأزمات البورصة؟”.
واستنتجت الباحثتان وفق تحليلهما للتطور المقارن لأسعار وعوائد الأسهم والذهب في أوقات الأزمات، أن “العلاقة بين الذهب والأسهم، التي تقترب بالفعل من الصفر في الأوقات الهادئة، تميل إلى التراجع أكثر خلال الأزمات، في تطور يضطلع فيه معدن الذهب بدور الملاذ الآمن”.
وتضيف الباحثتان أن الذهب يوفر وسيلة مثيرة للاهتمام لأصحاب الأسهم في معظم الحالات، مسجلتان أنه “على الرغم من عوائده المنخفضة على المدى الطويل، يعتبر الذهب من بين الأصول الأكثر جاذبية لتنويع محفظة الأسهم، خاصة في أوقات الأزمات”.
نظرة تاريخية
يكشف كتاب “تاريخ الذهب” للمؤرخ والخبير الاقتصادي الفرنسي رينيه سيديو، الصادر عام 1971، أن المعدن الأصفر مَثّل منذ القدم مثارا لشغف الإنسان، “فمنذ عرف الإنسان الذهب، وهو مفتون به”. وما كان لهذا الشغف المتزايد على مر العصور إلا أن يعطي للذهب قيمته النقدية الاستثنائية.
واعتبر سيديو أنه “لكي يفقد الذهب وظائفه وصولته باستثناء تلك المعترف له بها في الفن والصناعة (…) يتعين ويكفي أن يسود السلام بين الأمم”، وأن تعمد الحكومات الى خلق التوازن في ميزانياتها، وتحد من ارتفاع الأسعار، وتعمل على تبديد تهديدات التضخم، وتتجه بقوة صوب تعزيز عملتها وجعل قوانينها أكثر عدالة. وختم كتابه بالقول إنه “إذا لم يتم استيفاء كل هذه الشروط، فإنه لا يزال للذهب بعض الفرص”.
ويعلّق المحلل المالي الفرنسي فيليب هيرلن على كتاب سيديو، معتبرا أن وجهة نظر الكاتب “خاطئة”، فالذهب “يبقى بالتأكيد الملاذ الآمن المرجعي الذي يكتسب أهمية في حالات الصراع، ولكن ليس فقط كما يعلمنا التاريخ”.
وأوضح الباحث في علم الاقتصاد أن الأمر يتعلق قبل كل شيء “بعدم اتساق قرارات الدول التي تنفق بسخاء لإرضاء زبائنها الانتخابيين، والتي تمول عجزها المالي من خلال طباعة الأوراق النقدية، حيث تتجلى بعد فترة، في زيادة الأسعار ” .
ومع العولمة والمنافسة الدولية القوية، يرى الخبير الفرنسي أن التضخم لا يمس بالضرورة السلع الاستهلاكية، بل العقارات، مما يؤدي بشكل خطير إلى تآكل القوة الشرائية للأسر، مؤكدا أنه “مع الاضطراب النقدي الذي نشهده في جميع أنحاء العالم، من المرجح أن يمتد ارتفاع الأسعار إلى السلع الاستهلاكية، بما في ذلك الغذاء والطاقة”
ويعتقد الباحث أن الأمر سيكون مأساويا للعديد من البلدان، منها لبنان التي يجب أن تكون بمثابة تحذير للجميع، مؤكدا أن “الذهب لن يفقد قيمته أبدا، وأنه سيظل متمكنا من قلوب الرجال لآلاف السنين”.
ولتفادي التغييرات التي تعرفها أسعار الذهب، يقترح هيرلن العودة إلى “معيار الذهب”، أي تثبيت علاقة مستقرة بين النقود وكمية معينة من الذهب، وهي تقنية قد تم تطبيقها مسبقا، لافتا الى أن هذا القرار سيمنع الدول من توسيع عجزها، وسيضمن إيجاد توازن صارم بين النفقات والإيرادات.
احتياطي الذهب في العالم
ما تزال البنوك المركزية العشرة الكبرى في العالم تمتلك أكبر احتياطيات من الذهب، حسب آخر إحصائيات لمجلس الذهب العالمي.
وتحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى بأكثر من 8 آلاف طن من الذهب، وهو ما يمثل تقريبا مجموع احتياطي البلدان الثلاثة التالية.
وتشير الإحصائيات ذاتها إلى أن البنك المركزي الروسي ظل لمدة سبع سنوات متتالية، أكبر مشترٍ للذهب، حيث زاد حيازته بمقدار 274 طنا عام 2018، فيما تأتي كازاخستان، ثاني أكبر مشترٍ، في المركز 14 في ترتيب أكبر حيازات الذهب لدى البنوك المركزية في العالم.
أما من بين الدول المغاربية، فيحتل المغرب المرتبة 62 من حيث مخزونه من الذهب المقدر ب 22 طنا.
وتقول الأستاذة المبرزة في علوم الاقتصاد والجيو-سياسة، سهام اخميم، أن هذه الكمية من الذهب المغربي لم تتغير منذ عدة عقود، وقد تم الحصول عليها قبل سبعينيات القرن الماضي؛ أي في بداية السنوات التي تم فيها إلغاء نظام المعيار الذهبي أو ما يسمى تقويم أسعار العملات بالذهب .
وفي هذا الصدد، حذرت الباحثة سهام اخميم من إمكانية الرجوع إلى هذا المعيار الذهبي الذي كان بمثابة نظام نقدي؛ حيث يكون لعملة البلد قيمة مرتبطة مباشرة بالذهب، ويتم فيها تحويل النقود الورقية إلى كمية ثابتة من الذهب، مؤكدة أن هذا المعيار ساعد في حدوث الكساد الكبير عام 1929، لذا تم تعديله بعد الحرب العالمية الثانية لجعل الدولار الأميركي العملة العالمية الرئيسية، وأوقف تماما عام 1971، بعد أن أمر الرئيس الأميركي نيكسون بإلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأميركي إلى الذهب، ومنع ربط العملات بأي سلعة، ما أدخل العالم في مرحلة تعويم العملات؛ أي تذبذب قيمة العملات بحيث يمكن أن تزيد أو تنقص كل يوم عن اليوم السابق.
وعلى الرغم من تخلي الدول عن معيار الذهب الذي تم استخدامه لأول مرة كمعيار عام 643 قبل الميلاد حسب الخبيرة الإقتصادية، إلا أن المعدن الأصفر لم يفقد بريقه، فهو لا يزال أصلا مهما للحفاظ على الثروة ولحمايتها من أضرار التضخم، وهو أيضاً مرتبط بمختلف الثقافات، ويستخدم أكثر من المعادن الأخرى للزينة، ولا يتآكل مع مرور الزمن.
وخلصت الأستاذة المبرزة في علوم الاقتصاد والجيو-سياسة إلى أنه إذا كان للذهب تأثير كبير على الاقتصاد الأمريكي والبلدان المتقدمة، فالذهب المغربي ليس بالكمية الكافية القادرة على التأثير على نحو فعال على سوق الأسهم الوطنية، موضحة أن هذه الكمية التي يتوفر عليها المغرب تظل فقط مخزونا يتم اللجوء اليه كملاذ أخير وآمن لمواجهة الأزمات”.