هدأت أصوات موظّفي ومتقاعدي القطاع العام الذين ضغطوا على الحكومة لإقرار زيادة رواتبهم. ومع أنهم باتوا يقبضون 9 رواتب قياساً لرواتبهم قبل الأزمة الاقتصادية، إلاّ أن التصحيح لم يحصل بشكل فعلي رغم الزيادة بالأرقام، لأنه لم يُراعِ فقدان القدرة الشرائية للرواتب، وهذه هي المعضلة التي ما زال الموظّفون والمتقاعدون يحاولون حلّها مع الحكومة، والتي بدورها تنذر بعودة الاعتصامات في أي وقت. (راجع المدن).
بالتوازي، تبقى رواتب موظّفي القطاع الخاص أفضل من زملائهم في القطاع العام، لكنها هي الأخرى لا قدرة لديها على مواجهة ارتفاع الأسعار رغم زيادة أرقامها. فهل زيادة الرواتب بأرقام توازي سعر صرف الدولار في السوق، هو الحلّ؟. أي أن مَن كان راتبه قبل الأزمة، على سبيل المثال 1000 دولار، ما يساوي مليون و500 ألف ليرة، هل عليه أن يقبض اليوم نحو 89 مليون ليرة ليعيد ترتيب إنفاقه وفق ما كان عليه قبل العام 2019؟.
بين الأمس واليوم
يمكن لأي ربّ أسرة أن يراجع جدول إنفاقه الشهري، ليلاحظ أن الـ100 دولار التي يُنفقها اليوم، لم تعد تشتري ما كانت تشتريه قبل نحو 4 أعوام. هذه المفارقة كانت ملموسة قبل هذه الفترة، لكن اختلاف القدرة الشرائية كان يجري ببطء. وساعدَ تثبيت سعر صرف الدولار بواسطة أموال المودعين، على إخفاء الخلل بين حجم الرواتب والأجور من جهة، ومستوى الأسعار من جهة أخرى.
آلية الإخفاء لم تعد موجودة حالياً. وبالتالي، فإن الرواتب المعتمدة في أغلب الوظائف والتي تتراوح اليوم بين 400 و500 دولار، كانت تساوي تقريباً الحد الأدنى للأجور سابقاً، والذي كان يبلغ 675 ألف ليرة، أي 450 دولار. وعليه، فإن الأرقام تساوَت بين الأمس واليوم. لكن العودة إلى الوراء، تكشف أن القطاعات النقابية كانت تطالب برفع الحد الأدنى للأجور إلى نحو مليون و200 ألف ليرة على الأقل، أي إلى نحو 800 دولار. وأبعد من ذلك، إذا اعتبرنا يومها أن الرواتب كانت تزيد قليلاً عن الحد الأدنى، وأن عدداً ضئيلاً من المؤسسات الصغيرة تلتزم بالحدّ الأدنى، فإن الرواتب الفعلية كانت تصل إلى ما كان يُفتَرَض بالحدّ الأدنى للأجور أن يبلغه. وعلى أقلّ تقدير في هذه الحالة، أن يتقاضى الموظّفون اليوم الحد الأدنى للأجور، أي ما يفترض أن يوازي 800 دولار، وهو ما لا يحصل.
لا عودة للوراء
العمليات الحسابية المتعلّقة بالرواتب والأجور، تُظهِر أن ما يتقاضاه معظم اللبنانيين اليوم، لا يلبّي احتياجاتهم الضرورية. علماً أن عدداً لا يُستهان به يتقاضون أجوراً لا تزيد عن الـ300 دولار، أي أقلّ من الحد الأدنى للأجور قبل الأزمة.
وفي الزاوية الأخرى، إن هذه الحسابات معزولة عن تداعيات الظروف الداخلية والإقليمية والدولية، وانعكاسها على الاقتصاد اللبناني. أمّا ربطها مع تلك الظروف، فيستدعي زيادة الرواتب والأجور لتتخطّى الـ800 دولار. فالأسعار لم تعد على حالها، بل ارتفعت على مستوى عالمي. ولذلك، يقول الخبير الاقتصادي باتريك مارديني أن الرواتب والأجور “كانت تشتري كميات أكبر من السلع مقارنة مع ما تشتريه اليوم، حتى بالنسبة للأرقام ذاتها”. وهذا التغيُّر، بحسب ما يقوله مارديني لـ”المدن”، ليس محصوراً بلبنان فقط، وإنما على مستوى عالمي لأن “التضخّم ارتفع عالمياً، وارتفعت الأسعار إثر الحرب في أوكرانيا وجائحة كورونا. وأدّت طباعة العملات في الدول الغربية إلى مزيد من التضخّم”.
ويوضح مارديني أن “الـ100 دولار على سبيل المثال، باتت تشتري اليوم كميات أقل بنحو 50 بالمئة مقارنة مع ما كانت تشتريه قبل 4 سنوات، خصوصاً بالنسبة للسلع المستوردة، لأن أسعارها ارتفعت عالمياً من بلد المنشأ. وهذا الأمر عزَّز القدرة التنافسية للصناعات اللبنانية، نظراً لعوامل أخرى بقيت تكاليفها منخفضة نوعاً ما، كاليد العاملة”.
عدم التناسب بين القدرة الشرائية للدولار بين الأمس واليوم، يستدعي الحذَر من محاولة رفع الرواتب والأجور إلى الأرقام نفسها التي كانت عليها سابقاً. وهذا لا يعني بالضرورة عدم تصحيح الأجور، وإنما يجب أن تُصَحَّح وفق آليات مدروسة تواكب النمو الاقتصادي وإعادة هيكلة القطاع العام وحلّ أزمة الودائع وتنشيط الحركة الاقتصادية وزيادة الإنتاج… وما إلى ذلك من مؤشّرات حيوية يفتقدها الاقتصاد اليوم.
وبالنسبة إلى مارديني، ترتبط الرواتب “بالإنتاجية” وبالتالي، رفعها بدون إنتاجية إضافية “يزيد الأزمة ويعرِّض الاقتصاد للخطر ويرفع معدّلات البطالة”. ويشرح مارديني أن “إعطاء الموظَّف 1000 دولار ليُعطي هو في المقابل إنتاجية للمؤسسة بمبلغ 500 دولار، فسيتعرّض الموظّف حينها للطرد. وعدم التناسب بين الرواتب والإنتاجية كان موجوداً من قبل، لكن الفجوة كانت تُغَطّى من أموال المودعين ولذلك نعيش وسط الأزمة”.
مشكلة الرواتب والأجور بنيوية ومتجذّرة ولا تنتهي بزيادة أرقام لا سَنَدَ اقتصادياً واجتماعياً لها، سيّما وأن “الناتج المحلّي في لبنان انخفض من نحو 54 مليار دولار إلى نحو 20 مليار دولار”. ولذلك بتنا اليوم وسط ضغط هائل في القطاعين العام والخاص. فزيادة الرواتب في القطاع الخاص وسط اقتصادٍ هشّ، تعني تأخير النموّ وارتفاع نسبة البطالة، فيما الزيادة في القطاع العام، تستدعي التضخّم خصوصاً إذا اعتمدت الدولة على طباعة الليرة لتغطية حاجتها للرواتب “أما إذا دفعتها من احتياطي العملات الأجنبية، فستزيد الأزمة بمعدّلات أكبر ممّا هي عليه اليوم”.
يتخبّط المواطنون وسط تراجع القدرة الشرائية لرواتبهم. ومطالباتهم بزيادة الرواتب، هي في الحقيقة زيادة ضغط على الاقتصاد والأسعار. لكن لا بديل عن تحسين الرواتب وتصحيحها. ولذلك، فإن تهيئة الظروف المناسبة للتصحيح، هي من مسؤولية القوى السياسية التي ما زالت تتناحر وتُمنِّن جماهيرها بدعم مطالبهم برفع الأجور.