يحاول أهل القطاع الزراعي اللبناني تأمين العناصر الضرورية لاستمرار زراعتهم. وعلى رأس العناصر، مياه الريّ وتصريف الإنتاج. وهذه المهمّة ليست يسيرة في ظلّ وضع اقتصادي غير سليم، وحربٍ مرشّحة للتوسّع في أي وقت. وبالتوازي، لا قرارَ رسمياً بوقف النزيف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والانتقال نحو مرحلة جديدة تنتظم فيه أعمال الدولة عبر وزاراتها وإداراتها ومؤسساتها العامة.
وحتى ذلك الحين، تطوف بقطاعها الزراعي في دول المحيط، تبيِّنُ خصال القطاع وترفع راية عجزها عن دعمه. لكن فعلياً، لا تهمل الدولة القطاع فحسب، بل تساهم في تراجعه. ما يدلّ على أن المشكلة ليست فقط في ضعف الإمكانيات، بل في مسار الإهمال المستمر.
الحاجة لروزنامة زراعية
يتجدّد الحديث سنوياً، عن ضرورة تطبيق روزنامة زراعية تحدِّد مواعيد دخول المنتجات الزراعية المستورَدة إلى لبنان، بما لا يتعارض مع وفرة الإنتاج الزراعي اللبناني. ولا يكاد المزارع اللبناني يرفع مطلباً تلوَ الآخر، حتى تسمح الدولة بإدخال منتجات زراعية منافِسة، من دولٍ عربية وغربية، تدعم إنتاجها الزراعي وتقدّم التسهيلات لمزارعيها، مما يُكسِبُ البضائع المستورَدة قدرة تنافسية مقابل الإنتاج اللبناني غير المدعوم.
في الوقت عينه، يساهم التهريب بزيادة الضغط على القطاع وأهله. ولا يبدو أن المسألة ستتحجَّم قريباً، ذلك أن الأزمة السورية متواصلة، وانفلات الرقابة على الحدود بين لبنان وسوريا “يُغري” المهرِّبين لمراكمة الأرباح المادية. ويشكِّل القطاع الزراعي أحد أبواب التهريب.
ونظراً لزيادة عمليات التهريب على الحدود اللبنانية السورية، طلب وزير الزراعة عباس الحاج حسن، من “قيادة الجيش ووزارتي الدفاع والداخلية والقوى الأمنية والجمارك وأمن الدولة، المساعدة في ضبط عمليات التهريب، في ظل استمرار تدفق المنتوجات الزراعية المختلفة، وعلى وجه الخصوص، حمضيات وزيتون وزيت زيتون والخضار والحشائش وغيرها، ودخولها الأراضي اللبنانية بطرق غير شرعية، خصوصاً مع بدء الإنتاج المحلي، مما يشكل خسارة فادحة للمزارع اللبناني ويضرّ بالقطاع الزراعي والاقتصاد اللبناني”.
ومع أن التهريب وضعف المساعدة الرسمية للقطاع الزراعي، إلاّ أن القطاع يسجِّل نقاطاً إيجابية، إذ “يشهد نهضة، ولو متأخّرة، لكنها ناجحة”، بحسب ما أكّده الحاج حسن، في كلمتة له خلال مشاركته في المؤتمر الدولي التعاوني الحادي عشر لدول آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في الأردن.
ولإظهار نجاح القطاع، أشار الحاج حسن إلى أن في لبنان “ما لا يقلّ عن 900 تعاونية، منها 670 تعاونية زراعية، وطموحنا أن نرفع هذا الرقم إلى الضعف”. وهذه العملية تتمّ بشكل أفضل في ظل التعاون بين الدول، ولذلك، أكّد الحاج حسن أن لبنان “منفتح على كل دول العالم”.
وعلى أهمية التعاونيات الزراعية وتعزيز وجودها، إلاّ أن رئيس تجمع المزارعين والفلاحين إبراهيم الترشيشي، يعطي الأولوية القصوى لتشدُّد وزارة الزراعة في تطبيق الروزنامة الزراعية، داعياً وزير الزراعة إلى “فتح ملف الروزنامة الزراعية خلال مؤتمر الأردن”، سيّما وأن الأردن “لم يعد يستورد من لبنان كما كان في السابق”. وفي حديث لـ”المدن”، أوضح الترشيشي أن المملكة الأردنية “كانت تستورد التفاح والأفوكا والموز والبطاطا والبصل… وغيرها، واليوم تتّجه نحو دول أخرى غير لبنان، بسبب وجود سياسات حمائية في الدول الأخرى، تضغط باتجاه بناء علاقة متوازنة في الاستيراد والتصدير بين أي بلدين”.
الآبار كأحد حلول أزمة القطاع الزراعي
تتكامل عملية تطبيق الروزنامة الزراعية وضبط التهريب وبناء علاقات ندّية وجيدة مع دول الجوار، تسمح بتصريف الإنتاج اللبناني، وتتكامل مع تأمين المياه للريّ، وتحديداً عبر حفر الآبار الارتوازية في المناطق. وهو مطلب ما زالت وزارة الطاقة تضع العراقيل أمامه في مختلف المناطق. فيؤكّد الترشيشي أن “تسهيل حصول المزارعين على تراخيص لحفر الآبار، مهم جداً للزراعة والمزارعين”.
ولا يعلَّق الترشيشي آمالاً كبيرة على الدولة في هذا المجال. وبرأيه “الدولة تضع أمامنا العراقيل، فتضاف إلى العراقيل من دول أخرى. وحفر الآبار الارتوازية، يسمح بريّ الأراضي وتحسين الإنتاج”. لكن وزارة الطاقة والمياه تغرِّد خارج المنطق، فهي بدل تشجيعها وتسهيلها عملية حفر الآبار، اتّخذت في 19 نيسان، قراراً بتعليق العمل باصدار رخص حفر الآبار. وعلَّلَ وزير الطاقة وليد فيّاض قراره بـ”انتظار وضع المرسوم التطبيقي للمادة 35 من القانون 192/2020 (قانون المياه) الذي تعدّه الوزارة والمتعلق بتحديد شروط وأصول الترخيص بالتنقيب عن المياه واستعمال المياه الجوفية والسطحية وتنفيذ أشغال مختلفة موضع التنفيذ”.
لكن من زاوية أخرى، تكشف مصادر متابعة للملف، أن “قرار التعليق جاء على خلفية الفوضى الحاصلة في تمرير تراخيص الحفر في الوزارة”. وتضيف المصادر أن “هناك مكاتب وسماسرة يحظون بغطاء سياسي داخل وزارة الطاقة، وتعمل على تسهيل الحصول على تراخيص، لكن مع إهمال الجانب العلمي المتمثّل بوجود كشف هيدروجيولوجي على مواقع الحفر”.
وتذهب المصادر بعيداً في تعليل أسباب تعليق إعطاء تراخيص الحفر، وتقول بأن “السياسة المائية التي اعتمدتها وزارة الطاقة على مدى سنوات، تدفع باتجاه تلميع صورة السدود، لانشائها والانتفاع من مردودها المالي في ظل مخالفة القوانين. وعليه، تسعى وزارة الطاقة إلى تلميع صورة سدودها الفاشلة، وتضييق الخناق على المزارعين في ما يخص تأمين مياه الريّ عن طريق حفر الآبار، في حين أن الآبار تمكِّن المزارعين من استغلال المياه الجوفية على أكمل وجه، على عكس ما تروِّجه الوزارة من أن حلّ أزمة المياه، للشرب أو الريّ، يكون بانشاء السدود لا حفر الآبار”.
ومع أن الوزارة لا تسمح بحفر الآبار، وفق قرارها، إلاّ أن “هناك محظيون يتمكّنون من حفر الآبار إما من دون ترخيص أو بترخيص يؤمّنه السماسرة المعيَّنون من الجهات السياسية النافذة في وزارة الطاقة. علماً أن عدداً كبيراً من تلك الآبار، يتعدّى على أحواض التغذية، وهي المجالات الحيوية للينابيع، وتُعتَبَر مياهها مياهاً عامة لا يجوز استعمالها كمياه خاصة كمياه البئر. فيكون صاحب البئر في هذه الحالة، قد استحوذَ على مياه عامة ضمن بئره الخاص”.
لا يعوِّل المزارعون كثيراً على امكانيات الدولة عموماً ووزارة الزراعة خصوصاً في إيجاد دعم كافٍ للقطاع. في حين لا ينتظرون من وزارة الطاقة تغيير مسارها والتخلّي عن سياسة السدود التي لم يستفد منها اللبنانيون لا للشرب ولا للريّ. وعليه، يبقى القطاع في الدوّامة عينها.