أعدّ المركز اللبناني للدراسات دراسة عن القطاع الزراعي في لبنان أكّد فيها تأثّر القطاع بشكل كبير جرّاء الأزمة الاقتصادية التي يشهدها البلد. وأشار الى أنه في ظلّ التقلّبات الاقتصادية والسياسية المستمرّة، تبرز تحديات كثيرة أمام المزارعين تحدّ من قدرتهم على إنتاج المحاصيل والثروة الحيوانية. وفي ما يلي الجزء الأول من الدراسة:
قبل الأزمة، التي بدأت في شهر تشرين الأول من العام 2019، واجه القطاع الزراعي في لبنان بالفعل العديد من القيود التي تحول دون تعزيز الإنتاجية، إلى جانب محدودية مصادر التمويل ونقص التقنيات الزراعية والتحديات المتعلّقة بالتوظيف واليد العاملة، وغياب الكفاءة في استخدام المياه وعوامل الإنتاج الزراعي، وسوء حالة البنية التحتية وعدم فعالية خدمات الإرشاد الزراعي، والدعم المؤسسي شبه الغائب، بالإضافة إلى عدم المساواة بين الجنسين في ما يتعلّق بالوصول إلى الموارد والتحكّم فيها واتّخاذ القرارات والحصول على التمويل.
مع بروز الأزمة
ومع بروز الأزمة، تفاقمت المشكلات القائمة وأرخت بظلالها على القطاع الزراعي، وشكّلت تهديداً للأمن الغذائي في البلد كما عرّضت الكثير من المزارعين لخطر الإفلاس. وفي سياق التقلّبات السياسية والتحرّكات الاحتجاجية، وجد المزارعون صعوبة في نقل بضائعهم إلى الأسواق، ما تسبّب في تلف منتجاتهم وتكبيدهم خسائر مالية فادحة. ومع إغلاق الحدود والمعابر بسبب القيود المفروضة لمكافحة جائحة كوفيد 19 تعطّلت أسواق التصدير، ما أثّر بدوره على إيرادات المزارعين.
أبرز التحديات
ومن أبرز التحديات التي يواجهها المزارعون منذ سنوات، افتقارهم إلى الضروريات الأساسية مثل المحروقات والكهرباء ومصادر مياه الريّ الكافية. وكان لذلك أثر كبير على المحاصيل وجودتها وتكلفتها. يُشار إلى أن الحكومة وجدت صعوبة متزايدة في توفير إمدادات كافية من الوقود والكهرباء، ما أدّى إلى نقص كبير في الوقود وانقطاع متكرّر للتيار الكهربائي. وازدادت الأمور سوءاً عندما رفع الدعم عن الوقود في شهر أيلول 2022، فارتفعت أسعارها بشكل ملحوظ. علاوة على ذلك، وبسبب التدهور التدريجي لقيمة العملة الوطنية في لبنان، بات من الصعب على المزارعين تحمّل تكاليف عوامل الإنتاج الزراعي التي يحتاجون إليها، مثل الأسمدة والبذور والمبيدات، واستحالة الحصول على القروض بسبب انهيار القطاع المصرفي. والجدير ذكره أن برنامج «كفالات» كان من أكثر البرامج المفضّلة لدى المزارعين اللبنانيين وذلك لسهولة استخدامه (مع إطلاق برنامج تعزيز الاستثمار في العام 2015 بقيمة 30 مليون دولار) بيد أن المصرف المركزي لم يعد يوافق على منح مثل هذه القروض المدعومة.
إنخفاض الإستهلاك
بالإضافة إلى ذلك انخفض الاستهلاك عندما ارتفع سعر سلّة الحدّ الأدنى للإنفاق – وهو مؤشِّر تستخدمه المنظمات الإنسانية لتقدير الاحتياجات – حيث ارتفع من 38 ألف ليرة لبنانية في شهر أيلول من العام 2019 إلى 790 ألف ليرة لبنانية في شهر أيار من العام 2022 أي بزيادة قدرها 1300% تقريباً.
لمحة عامة
يهدف هذا الملخّص إلى تقديم لمحة عامة موجزة عن الوضع الحالي للقطاع الزراعي، وتسليط الضوء على التوصيات السياساتية الرئيسية لإحداث تغييرات جذرية. ولمعالجة هذه المسائل الملحة وإطلاق العنان لإمكانات القطاع الكاملة، لا بدّ من أن يولي صانعو السياسات الأولوية للإصلاحات الشاملة والحلول المبتكرة. إنه، ومن خلال التركيز على الممارسات المستدامة، واعتماد التكنولوجيا، وتنويع الأسواق والتنمية الريفية، يمكن زيادة الإنتاجية الزراعية مع تعزيز النمو الشامل في المجال الزراعي.
بعض الإحصاءات
تؤدي الزراعة دوراً ثانوياً نسبياً في اقتصاد لبنان وذلك على الرغم من احتواء البلاد على أعلى نسبة من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم العربي. فمع أكثر من 200,000 هكتار(494,000 فدان)، تمثل الزراعة ما يناهز 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الوطني، وتستأثر بـ8 في المئة من اليد العاملة الفعّالة. ويُعتبر القطاع، بالإضافة إلى إنتاجه الزراعي الأساسي مساهماً رئيسياً في صناعة الأغذية الزراعية المهمة في لبنان والتي بدورها تسهم بنسبة 5 في المئة إضافية في إجمالي الناتج المحلي، وتوفّر فرص العمل لشريحة إضافية من القوى العاملة الفعّالة بنسبة 8 في المئة، وباتت تشكّل مصدراً رئيسياً ومتزايداً للوظائف في الاقتصاد.
وبحسب التقديرات، بلغ إجمالي المساحة الزراعية المزروعة ما يناهز 271,412 هكتاراً في العام 2021 (259,809 هكتارات في العام 2016) أي ما يشكّل حوالي 25% من مساحة الأراضي اللبنانية. وتشمل الحقول المزروعة بالمحاصيل الموسمية والأشجار المثمرة، بالإضافة إلى البيوت البلاستيكية.
شكّلت قيمة الإنتاج النباتي في عام 2016 (محاصيل موسمية 44%، ومحاصيل دائمة 66%) ما يناهز 73% من إجمالي قيمة الإنتاج الزراعي. وفي العام 2021 يُظهر الإحصاء انخفاضاً طفيفاً (-5 نقاط) في إنتاج الموارد النباتية، مقروناً بزيادة في الإنتاج الحيواني (+ 5 نقاط). إن الانخفاض في الإنتاج النباتي تحوّل إلى زيادة في الإنتاج الحيواني.
وفقاً لوزارة الزراعة، ينتج لبنان مجموعة متنوّعة من المنتجات الزراعية، بما في ذلك الفاكهة، مثل العنب (118,794 طناً)، والحمضيات (333,796 طناً)، والتفاح والفاكهة ذات النواة (552,850 طناً) والدرّاق والنكتارين (74,784 طناً)، والتبغ والزيتون (169,941 طناً)، وكذلك المنتجات ذات القيمة المضافة العالية. وفي هذا السياق، يُعتبر إنتاج النبيذ المحلي (6 ملايين زجاجة) من أهم الصناعات في قطاع الزراعة اللبناني. أمّا في ما يتعلّق بالإنتاج الحيواني، فتُقدّر القيمة الإجمالية (للأبقار والأغنام والماعز والدواجن والنحل) في العام 2021 بما يناهز 7,461 مليار ليرة لبنانية، ومن ضمنها 45% للدواجن، فيما بلغ إنتاج العسل ما يقارب 311 مليار ليرة لبنانية في العام 2021 مقابل 71 مليار ليرة لبنانية في العام 2016.
تغطية 20% من الحاجات
وتجدر الإشارة إلى أنّ المواد الغذائية الزراعية تشكّل نصيباً مهماً في التجارة اللبنانية. تُعدّ الزراعة (ومعظمها من الفواكه والخضراوات والتبغ الخام والتوابل والماشية) والأعمال التجارية الزراعية (ومعظمها من الأغذية المصنعة وشبه المصنعة) مصدراً رئيسياً للصادرات، إذ تستأثر بأكثر من 21% من إجمالي الصادرات. ومع ذلك، يعتبر لبنان مستورداً صافياً للغذاء، حيث يُلبّي الإنتاج المحلي 20 في المئة فقط من الاستهلاك المحلي ما يجعله عرضة لتقلب أسعار المنتجات الغذائية والزراعية.
الإستيراد والتصدير
بلغت المستوردات الزراعية في العام 2016 ما يقارب 3,27 مليارات دولار أميركي وتقدر بـ 14% تقريباً من إجمالي الواردات (22 مليار دولار أميركي),، كما سجلت المستوى نفسه في العام 2021. بيد أن الإحصاء يُظهر انخفاضاً في إجمالي الواردات والواردات الزراعية للعام2021، وذلك لأسباب عديدة أهمها تدهور قيمة الليرة اللبنانية وانتشار جائحة كوفيد – 19. أما بالنسبة إلى الصادرات الزراعية، فلا تزال الدول العربية تمثل سوق الصادرات الرئيسية للمنتجات الزراعية اللبنانية، إذ تشكّل أكثر من 90% من إجمالي الصادرات الزراعية. وتستأثر خمس دول عربية رئيسية (وهي الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وسوريا) بما يناهز 68.4% من إجمالي الصادرات. وتمثل صادرات الفاكهة ما يُقارب 48% من الصادرات الزراعية.
بيئة السياسات العامة
على أية حال، إن بيئة السياسات العامة في لبنان تتميّز بغياب أنظمة شاملة للزراعة؛ فالقوانين التي تم اعتمادها تفتقر إلى التنفيذ الفعّال. وفي سعيها لتحسين جودة الإنتاج والامتثال للمعايير الدولية، قامت الحكومة بعدة مبادرات بهدف جعل المنتجات الغذائية اللبنانية أكثر أماناً وتنافسية في أسواق التصدير. في هذا السياق، تمّ تكليف لجنة خبراء متخصّصة بصياغة قانون يراعي قانون المجموعة الاقتصادية الأوروبية رقم 91/2092 لمراقبة الإنتاج العضوي في لبنان. ولم يسنّ قانون تنظيم الإنتاج العضوي حتى العام 2020 لضمان مطابقة المنتجات العضوية لمواصفات مؤسّسة المقاييس والمواصفات اللبنانية (ليبنور)، بحيث تستوفي جميع الشروط المطلوبة للإنتاج العضوي. كذلك، تكشف السياسات التي تنظم السوق، وصناعة الأغذية، والمسائل المتعلقة بسلامة الأغذية والآثار البيئية المهمة للتصنيع الغذائي، عن ثغرات مهمة في التشريع والتنفيذ. فالقوانين والأنظمة القائمة تطبق بشكل سيّئ بسبب الغرامات المنخفضة ونقص التنسيق بين الوكالات الحكومية المتعدّدة. ومن المعروف أن اتّساق السياسات في لبنان غائب، ويعود سبب ذلك جزئياً إلى نقص التنسيق بين المؤسسات الحكومية.
مخاوف السلامة
وأخيراً، يُشكّل التنفيذ الفعّال مصدر قلق يؤثر على الكثير من هذه التدابير السياساتية. وأشار تقرير حديث نشرته الجامعة الأميركية في بيروت في شهر تموز من العام 2022 إلى أن إدارة الغذاء والدواء الأميركية صادرت مواد غذائية من لبنان بسبب مخاوف تتعلّق بالسلامة الغذائية، ما قد يحدّ من صادرات البلد من الأغذية الزراعية، ما يشير إلى أن هذه القوانين والمقاييس اللبنانية قد تكون سيئة، أو ربما لا يتمّ إنفاذها كما ينبغي. ومن الأمثلة على هذه المنتجات، طحينة السمسم التي ضُبطت لتلوّثها ببكتيريا السالمونيلا.
إستراتيجية وخطة عمل سدّ الثغرات
تحت عنوان استراتيجية وطنية وخطة عمل للتغذية (2021-2026)، وضعت وزارة الصحة العامة استراتيجيتها الخاصة في عام 2021 أقرّت فيها أيضاً بتشعّب النظم والهياكل الإدارية التي تنظم التغذية بين هيئات متعدّدة، بالإضافة إلى نقص التنسيق بين الوزارات، مشدّدة على أهمية الهيئة التنسيقية، ولكن هذه المرّة بالنسبة إلى قطاع التغذية. في الوقت الحالي، معظم المنتجات الشائعة في السوق ليست مغذية و/ أو مستوردة. السبب الرئيسي، وفقاً للاستراتيجية، هو الثغرات في الإنتاج الزراعي المحلي والتنويع مدفوعاً بضعف إدارة المزارع والموارد، والتنسيق المحدود بين الجهات الفاعلة.
كذلك، تُحدّد هذه الاستراتيجية الثغرات الموجودة في النظام الغذائي اللبناني على النحو التالي: المحتويات الغذائية للمنتجات غير الخاضعة للرقابة وتوسيمها غير المطابق، والإنفاذ غير المُحكّم لقانون سلامة الغذاء، وغياب الاكتفاء الذاتي، وزيادة حجم الواردات. وفي الوقت الراهن، نجد أن معظم المنتجات الشائعة في السوق ليست مغذية و/أو هي مستوردة. ويعود السبب الرئيسي لذلك، وفقاً للاستراتيجية، إلى الثغرات في الإنتاج الزراعي المحلي والتنويع، ونتيجة لضعف إدارة المزارع والموارد والتنسيق المحدود بين الجهات الفاعلة في سلسلة القيمة، والنقص في المعدات والمرافق للحفاظ على جودة المنتج في عملية الإنتاج وما بعد الحصاد.
الأمن الغذائي مشتّت المرجعيات
في الإطار المؤسسي اللبناني الحالي، يُعتبر الأمن الغذائي شأن عدة وزارات بموجب صلاحيات كل منها من هنا تبرز أهمية إنشاء هيئة تنسيق فعّالة لضمان مواءمة العمل بين جميع الوزارات والمؤسسات العامة المعنية، بالإضافة إلى المجتمع المدني، والقطاع الخاص، ومراكز الأبحاث والجامعات، وشركاء التنمية، وأصحاب المصلحة الآخرين فهذه خطوة ضرورية لتنفيذ استراتيجية وزارة الزراعة وتعبئة الموارد اللازمة، فضلاً عن تحديثها بانتظام لمواكبة الأزمة الاقتصادية والمالية المتسارعة التي يواجهها البلد.