فيما تدور الدولة، بسياسييها وفاسديها، في دوامة الموازنة العامة وسيناريوهات التقشف وتحركات الشارع الرافضة لخفض رواتب القطاع العام، تجري رياح أسعار المحروقات بما لا يشتهي المواطنون. فأسعار المحروقات تتصاعد بوتيرة متسارعة منذ قرابة الشهرين، وتدفع معها بأسعار كافة المنتجات الاستهلاكية، المرتبطة بشكل أو بآخر بأسعار المحروقات.
منذ بداية شهر آذار، ارتفع سعر صفيحة البنزين في لبنان، على مدار الأسابيع الأربعة، بقيمة 400 ليرة ثم 500 ليرة ثم 500 ليرة ثم 400 ليرة. وخلال شهر نيسان، ارتفع السعر بقيمة 400 ليرة ثم 500 ليرة ثم 500 ليرة. ومن المتوقع أن يستمر بالارتفاع يوم الأربعاء المقبل بما لا يقل عن 400 ليرة. بمعنى أن سعر صفيحة البنزين ارتفع خلال مدة زمنية تقل عن الشهرين (7 أسابيع)، بقيمة 3200 ليرة من 23800 ليرة للصفيحة (98 أوكتان) إلى 27000 ليرة، أي بنسبة 13.4 في المئة.
من المعروف أن أسعار المحروقات في لبنان، كما سائر دول العالم، ترتبط بشكل مباشر بأسعار النفط العالمية. ونظراً لكون سعر برميل النفط عالمياً يتجه إلى الارتفاع منذ أشهر، لأسباب عديد تتعلّق بالعقوبات على إيران والأزمة الفنزويلية والأحداث في ليبيا، يصبح ارتفاع أسعار المشتقات النفطية في لبنان أمراً مبرراً من حيث المبدأ. ولكن هل هناك تناسب وانسجام بين السعرين العالمي والمحلي؟
الجواب لا. لا يرتفع سعر البنزين في لبنان بما يتناسب وأسعار النفط العالمية، بل يتجاوزها بأشواط، من دون حسيب أو رقيب، وعند سؤال المعنيين عن طريقة احتساب أسعار المحروقات في لبنان، غالباً ما تكون أن هناك عملية حسابية معقدة، يضاف إليها العديد من المعايير والظروف، وما إلى ذلك من تبريرات وشروحات تلامس أحياناً معادلة فيزيائية نووية..
لكن بعيداً عن تعقيدات العمليات الحسابية، كيف يمكن تبرير بلوغ سعر صفيحة البنزين في لبنان اليوم 27000 ليرة بالتوازي مع سعر برميل النفط 71000 ليرة، في حين أن سعر الصفيحة عام 2009 بلغ 34000 ليرة بالتوازي مع سعر برميل النفط 137 دولاراً. وإذا ما أجرينا مقارنة بين سعري برميل النفط المذكورين عامي 2009 و2019، نستنتج أن سعر الصفيحة اليوم يجب ألا يتجاوز 17900 ليرة فقط وليس 27000 ليرة.
مقارنة أسعار البنزين في لبنان وتفاوتها بشكل غير متوازن مع تطور أسعار النفط العالمية، لا يمكن تفسيرها سوى بعشوائية التسعير من قبل الشركات المستوردة للنفط، وبتواطؤ وزارة الطاقة معها، بدليل أن سعر برميل النفط مطلع عام 2011 تراجع عما كان عليه عام 2009 إلى 94 دولاراً، في حين أن سعر صفيحة البنزين في لبنان ارتفعت عما كانت عليه عام 2009 إلى نحو 36 ألف ليرة (35900 ليرة)، وهذا مثال يفضح غياب المعايير الشفافة للتسعير.
وتبقى العلّة الأساس ليس بشفافية الشركات الخاصة المستوردة للنفط وحسب، بل في تخلّي الدولة عن دورها بشكل تام، لصالح تلك الشركات. فلا استيراد ولا رقابة ولا فرض آلية شفافة للتسعير. وكل ما تسعى إليه الدولة هو تقاضي أموال الرسوم والضرائب على المحروقات من زبائنها الدائمين (المواطنين)، من دون أدنى محاولة لتنظيم هذا القطاع، ووضع حد لجشع الشركات التي تضع يدها عليه منذ سنوات.
تتقاضى خزينة الدولة عن كل صفيحة بنزين ما لا يزيد عن 8 آلاف ليرة، تتوزع بين رسوم وضريبة على القيمة المضافة (TVA). ويعود كل ما تبقى من السعر إلى الشركات المستوردة ومحطات المحروقات، علماً أن الجدول الأسبوعي لتركيب الأسعار، الذي يصدر عن وزارة الطاقة، كل يوم أربعاء، يستند إلى فواتير المنشأ، التي تقدمها الشركات المستوردة نفسها، من دون أيّ تدقيق أو مراقبة بصحة الفواتير وتواريخها.
وبالنظر إلى حجم أرباح الدولة من قطاع المحروقات، وحجم أرباح الشركات، يتضح للعيان أن الدولة متساهلة، إن لم نقل متنازلة عن حقها في تحصيل مزيد من الإيرادات للخزينة لصالح الشركات الخاصة. قد يكون تنازل الدولة جهلاً أو تواطؤاً، إلا أن النتيجة في كلتا الحالتين هي تحويل إيرادات مالية ضخمة إلى “كارتل” النفط. وهو ما لا يمكن تسميته سوى “الفساد”.