السياسة النقديّة مستقرّة رغم الضغوط

على الرغم من الأزمات التي يمرّ فيها لبنان بشكل شبه يومي من تخبّط سياسي إلى فوضى إقتصادية ومالية مرورًا بأحداث قبرشمون، والعقوبات الأميركية الأخيرة، والموازنة، والتقارير الدوّلية، وصفقة القرن.. وغيرها، تبقى الليرة ملاذاً آمناً للمستثمرين بفضل السياسة النقدية التي أحكمتّ الدفاع عن العمّلة الوطنية.

أكثر ما يُخيف المواطن اللبناني هو الحديث عن تراجع الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي. وفي زمن وسائل التواصل الإجتماعي، تجتاح الإشاعات والأخبار المُضخّمة منازل اللبنانيين من باب الأجهزة الإلكترونية تُخبرهم أنّ الليرة ستنهار. وبما أنّ القسم الأكبر من الشعب اللبناني يتلقّى مدخوله بالليرة اللبنانية، لذا تُثير هذه الشائعات بلبلة تُسبّب بحدّ ذاتها ضغوطات على الليرة اللبنانية.

من بين هذه الإشاعات نورد على سبيل الذكر: إنهيار الليرة، وإقتطاع قسم من أموال المودعين… في الواقع لم نشهد في الإقتصادات الحرّة في العالم أجمع أنّ دوّلة قامت بوضع يدها على أموال المودعين بحكم أنّ الإقتصادات الحرّة مبنية على مبدأ «قدسية الملكية»، والذي هو أساس الإقتصاد الحرّ. حتى الأخبار التي تردّدت عن أنّ قبرص أو اليونان عمدت إلى إقتطاع نسبة من أموال المودعين هو خبر من خيال مُطلقه. فحاكم مصرف لبنان رياض سلامّة وعند تسلّمه سدّة الحاكمية، عمد إلى تنظيم القطاع المصرفي بشكل أن تكون الأولوية هي لحماية أموال المودعين في المصارف اللبنانية. وحتى في حال إفلاس مصرف من هذه المصارف (وهذا غير مُمكن نظرًا إلى نسبة السيولة الهائلة)، فإنّ أموال المودعين محفوظة ولا يُمكن المسّ بها.

أمّا على صعيد الليرة اللبنانية، فهي تتعرّض ومنذ سنين طويلة لإشاعات بأنّها ستنهار، وهذا ما لم يحصل. فسعر صرف الليرة يتعلّق بعوامل عدّة منها سياسية، أمنية، قانونية، إقتصادية ومالية.

لن نذكر العوامل السياسية، ولا الأمنية ولا القانونية في هذا المقال، بل سنكتفي بذكر العوامل التي لها علاقة بالسياسة المالية والسياسة النقدية (Longatte 2001). من هذه العوامل هناك الميزان التجاري، الماكينة الإقتصادية، عجز الموازنة، فرق نسبة التضخم بين الدولة صاحبة العملة والدولة صاحبة العملة المرجع، أسعار الفائدة، تدفقات رؤوس الأموال، الكتلة النقدية، والمُضاربة التي تؤثر على العرض والطلب.

غياب السياسة المالية في لبنان، والتي هي من مسؤولية الحكومة، يضغطّ سلبيًا على الليرة اللبنانية بشكل مستمرّ، وذلك من خلال عدّة عوامل مثل عجز الميزان التجاري، والذي يؤدّي إلى خروجّ كمّ هائل من العملة الصعبة من لبنان بحكم أنّ التجارة الدوّلية تتمّ بالعمّلة الصعبة. هذا العجز في الميزان التجاري، والذي هو نتاج غياب السياسات الإقتصادية التي تُحفّز الإقتصاد المُنتج، يؤدّي إلى ضرب الحساب الجاري والذي يُسجّل عجزًا يجعل الطلب على العمّلة الصعبة أكثر منه على الليرة اللبنانية. من جهة أخرى يأتي التضخّم الناتج من سلسلة الرتب والرواتب ومن أسعار النفط، ليُضعف من قيمة الليرة اللبنانية عملًا بنظرية «تعادل القوّة الشرائية» التي تنصّ على أنّ تصحيحاً في قيمة العملة المحليّة هو أمر ضروري لتفادي الـ Arbitrage. أمّا من ناحية عجز الموازنة، من المعروف أنه يزيد من طلب الدولة على الأموال في الأسواق، وبالتالي يحرم القطاع الخاص من الإستثمارات ويزيد الفائدة على الأمد البعيد، ما يعني إضعاف الإقتصاد الذي تنعكس قوته أو ضعفه في الليرة اللبنانية.

السياسة النقدية المُتبعة في لبنان منذ تبوّء رياض سلامة سدّة الحاكمية في مصرف لبنان هي سياسة الثبات النقدي، وتقوم على إستقرار في سعر صرف الليرة وسعر الفائدة على الأمد القصير. والجدير ذكره أنّ المصارف المركزية لها سلطة على سعر الفائدة على الأمد القصير، أما سعر الفائدة على الأمد الطويل فهو نتاج عجز الموازنة والدين العام.

مصرف لبنان يستخدم الأدوات التقليدية التي تنصّ عليها السياسات النقدية، أي تعديل سعر الفائدة والكتلة النقدية في السوق وإحتياط المصارف في مصرف لبنان (أو ما يُسمّى بالإحتياطي الإلزامي). إضافة إلى ذلك، يستخدم مصرف لبنان أدوات تُصنّف غير نقدية لكنها مالية بإمتياز، مثل السيولة والسياسة الإحترازية. وبما أنّ العجز في الموازنة العامّة في لبنان وصل إلى مُستويات أعلى بكثير من المستويات التي تنصّ عليها المعايير الدوّلية، ما يرفع من سعر الفائدة على الأمد البعيد ويُضعف الإقتصاد، عمد مصرف لبنان إلى استخدام أدوات غير تقليدية مثل الهندسات المالية التي أنقذت لبنان عدّة مرّات بإعتراف البنك الدولي وصندوق النقد الدوّلي.

في الواقع، تردّي الوضع الإقتصادي والمالية العامّة دفع بسلامة إلى العمل على تكوين إحتياط هائل من العملات الأجنبية سمح بالحفاظ على سعر صرف ليرة ثابت. وقد أثبتت التجارب أنّ هذا الثبات هو أمر حقيقي ومتين. ولعبت الهندسات المالية دورًا أساسيًا في تدعيم هذا الإحتياط إلى درجة تخطيه الناتج المحلّي الإجمالي، حتى أصبح معها سلامة رقماً صعباً في معادلة الاستقرار التي حكمت المشهد النقدي.

هل من خطر على الليرة اللبنانية حاليًا؟
ما يجب قوله هو أنّ السياسة المالية للدوّلة اللبنانية تؤثر سلبًا على الليرة اللبنانية وتزيد الضغوطات عليها خصوصًا عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري. والأصعب في الأمر، أنّ الحكومة تقترح في مشروع موازنة العام 2019 تحميل مصرف لبنان كلفة قرض بقيمة 11 ألف مليار ليرة لبنانية بفائدة 1% في حين أنّ الفائدة الإسمية في السوق هي 13.5% ما يعني أنّ الكلفة تفوق الـ 900 مليون دولار أميركي. هذا الإقتراح الأخير أغضب صندوق النقد الدوّلي، والذي رأى فيه إجراءً غير مسؤول تجاه الثبات النقدي والمالي على حدٍ سواء.

في الجهة المقابلة، تأتي السياسة النقدية لتمتصّ الضغوطات التي تُشكّلها السياسة المالية على الليرة اللبنانية. بالطبع هذا الأمر له ثمن، وكما يُقال في عالم الإقتصاد والمال «لا شيء مجاني»، إلّا أنّ مصرف لبنان يمتلك القدّرة على تحمّل هذا الثمن. في المقابل يتوجّب على الحكومة القيام أيضًا بإجراءات تُساعد المصرف المركزي من ناحية عدم تحميله قروضاً بفوائد مُخفّضة، ولكن أيضًا وقف التخبّط السياسي ومنع الأحداث الأمنية مثل حادثة قبرشمون.

وباعتقادنا، وعلى الرغم من صعوبات المالية العامّة، إقرار الموازنة وتحرير قسم من أموال مؤتمر «سيدر» سيكون لهما وقع إيجابي على الليرة اللبنانية وعلى النمو الإقتصادي، الذي وبفضل دخول إستثمارات إلى لبنان سيرتفع بشكل ملحوظ وسيسمح للدوّلة بزيادة إيراداتها وتخفيف كلفة الدين العام عليها.

في الختام، تأتي المسؤولية الجماعية للشعب اللبناني لتقول بالصوت العالي إنّه يتوجّب علينا زيادة الثقة بعملتنا الوطنية وعدم التهافت لإستبدال الليرة بالدولار الأميركي (المُضاربة التي تؤثر على العرض والطلب) لأنّ الشعب اللبناني هو الوحيد القادر على ضرب الليرة إذا ما قرّر التخلّي عنها.

بواسطةبروفسور جاسم عجاقة
مصدرالجمهورية
المادة السابقةالموازنة.. “كمن يسير فوق الالغام”
المقالة القادمةديون الأسواق الناشئة ترتفع الى مستويات قياسيّة