مرّت سنة وشهران على التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد، من دون أن يتم تنفيذ الغالبيّة الساحقة من شروطه، التي كان من المفترض تنفيذها لإطلاق برنامج التعافي المالي، وتوقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق. الأطراف المسؤولة عن هذا الواقع، بشكل عام، هي نفسها الأطراف التي كانت تملك صلاحيّة تنفيذ هذه الشروط، والتي حددتها آخر بيانات بعثة الصندوق بشكل واضح: الحكومة ومجلس النوّاب والمصرف المركزي. ومع ذلك، قد يكون من المفيد مراجعة مكامن العرقلة في تنفيذ كل شرط على حدة، لتقييم نوعيّة المصالح والحسابات التي تحميها عرقلة الإصلاحات المنصوص عنها في التفاهم.
يوم أمس الخميس، كانت لجنة الاقتصاد النيابيّة على موعد مع اجتماع خاص مع نائب رئيس الحكومة سعادة شامي، لاستعراض واقع هذا التفاهم، ووضعيّة لبنان الراهنة بما يخص كل شرط من شروطه الإصلاحيّة. وكما أشارت النائبة حليمة قعقور، التي لعبت دورًا أساسيًّا في توجيه الأسئلة داخل الجلسة ونشر أجوبتها لاحقًا، كانت المناسبة فرصة لتحديد المسؤوليّات في عرقلة البنود الإصلاحيّة، وهو ما حصل بالفعل من خلال الأجوبة التي قدّمها الشامي في ساحة النجمة.
التدقيق المحاسبي في مصرف لبنان: العين على وزارة الماليّة
بالنسبة إلى شرط التدقيق المحاسبي في ميزانيّة المصرف المركزي، والذي كان من المفترض أن يكشف وضعيّة الفجوة الماليّة وطبيعتها، أكّد الشامي أمام النوّاب أنّ التدقيق حصل بالفعل. إلا أنّ التقرير، وتمامًا كما كشف صندوق النقد في آخر بياناته، لم يُنشر ولم يُفصح عن مضمونه. لا بل أشار الشامي داخل الجلسة أنّه لم يستلم هذا التقرير أصلًا، رغم كونه المسؤول عن ملف التفاوض مع الصندوق والخطّة الماليّة المرتبطة بهذا المسار. ومن الناحية العمليّة، من المفترض أن تكون وزارة الماليّة هي الجهة المسؤولة عن مسار هذا التدقيق، وهو ما دفع الشامي إلى مراسلتها طالبًا نسخة عن التقرير النهائي، إلا أنّ الوزارة تغاضت عن الرد على مراسلته.
باختصار، وفي ما يخص هذا الشرط، باتت العين اليوم على وزارة الماليّة، التي تتقاعس عن نشر نتائج التدقيق في ميزانيّة المصرف المركزي. مع الإشارة إلى أنّ بيان صندوق النقد الأخير بخصوص لبنان شدّد على ضرورة نشر هذا التقرير من أجل شفافيّة الخطّة الماليّة وأرقامها.
منصّة صيرفة: ليست منصّة تداول حرّة بالعملات الأجنبيّة
بما يخص شرط توحيد أسعار، ثمّة جانب أساسي من المشكلة مرتبط بمصّة صيرفة، التي كان من المفترض أن تعكس سعر صرف الليرة العائم والحر، ولاحقًا الموحّد. يعتبر صندوق النقد أنّ المنصّة ليست أداة تداول حرّة للعملات الأجنبيّة. وهو ما دفعه إلى طلب إلغاء المنصّة أو تغيير إسمها، للعمل على استحداث آليّة للتداول الحرّ بالعملات الأجنبيّة. والمسؤول عن هذه العرقلة هنا، هو مصرف لبنان. ومن المعلوم أنّ تعدد أسعار الصرف لا يزال حتّى اللحظة أداة تعتمدها النخبة الماليّة لتوزيع الخسائر بشكل غير متكافئ، خلال الوقت الضائع ومن خارج أي خطّة شاملة، من خلال الأسعار المختلفة المعتمدة للسحوبات المصرفيّة وبيع دولارات المنصّة والرسوم والضرائب وغيرها.
ثغرات تعديلات السريّة المصرفيّة: المسؤوليّة على مجلس النوّاب
أشار الشامي إلى أنّ التعديلات على قانون السريّة المصرفيّة، التي أقرّها مجلس النوّاب، بناءً على شروط الصندوق، لم تكن مطابقة تمامًا للمطلوب. أمّا الثغرة الأساسيّة هنا، فهي عدم إتاحة التعديلات اطلاع لجنة الرقابة على المصارف على تفاصيل الحسابات المصرفيّة، لغايات إعادة الهيكلة، وهو ما سيفرض تمرير تعديلات إضافيّة على قانون سريّة المصارف لإتاحة هذا الأمر. والمسؤول هنا، هو مجلس النوّاب بالتحديد، الذي عدّل اقتراح القانون المطروح أمامه على هذا النحو، لحماية الداتا المصرفيّة من أعين لجنة الرقابة على المصارف.
تدقيق ميزانيّات المصارف: مشاكل في التمويل وتعاون الشركات الدوليّة
حسب الاتفاق المبدئي مع الصندوق، كان من المفترض أن يتم توقيع عقود لتدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرفًا، من قبل مؤسسة أو مؤسسات تدقيق عالميّة معروفة. لكنّ كما هو معلوم، لم يتم توقيع عقد التدقيق حتّى اللحظة، بسبب وجود مشاكل في التمويل أولًا، وتحفّظ الشركات الدوليّة المرموقة على العمل في مهمّة شائكة من هذا النوع، حسب الشامي. ومع ذلك، أشار الشامي إلى أنّه يعمل على بدائل مختلفة لتأمين هذا التمويل من مؤسسات دوليّة، ومن ثم إيجاد الشركات المهتمّة بإنجازه.
وعلى أي حال، وبمعزل عن ما قاله الشامي هنا، أشار رئيس بعثة صندوق النقد في آخر زياراته إلى لبنان إلى أنّ جزءاً من أسباب عرقلة هذا التدقيق تعود إلى صيغة التعديلات على قانون سريّة المصارف، والتي لم تضمن للجهات الرقابيّة في مصرف لبنان الصلاحيّات الكافية لرفع السريّة المصرفيّة وإتمام هذا التدقيق. وهذا التشخيص يختلف إلى حدٍ ما مع التشخيص الذي قدّمه الشامي في الجلسة.
إعادة هيكلة الدين العام: بانتظار الإصلاحات الأخرى
نصّ التفاهم مع الصندوق على وضع استراتيجيّة حكوميّة لإعادة هيكلة الدين العام، ما يفرض وضع تصوّر لاستحقاقات وفوائد وقيم السندات الجديدة بعد إعادة الهيكلة، في ضوء المفاوضات الحكوميّة مع الدائنين. لكن حتّى اللحظة، لم يبدأ التفاوض الجدّي مع الدائنين المحليين أو الأجانب. وهو ما يطرح أسئلة جديّة عن إمكانيّة استفادة أطراف معيّنة من عدم تحديد ملكيّة السندات، في ظل المضاربات التي تحصل على سندات اليوروبوند في الأسواق الماليّة.
الشامي أشار خلال الاجتماع إلى أنّ تأخّر المفاوضات يعود لتأخّر تنفيذ الإصلاحات الأخرى التي كان من المفترض أن يتم إنجازها خلال الأشهر الماضية. إذ أنّ فرض تنازلات معيّنة على الدائنين، في ما يخص الآجال والقيم والفوائد، يجب أن يسبقه وجود إصلاحات تؤكّد قدرة الدولة على سداد قيمة السندات بعد إعادة هيكلتها.
إعادة هيكلة المصارف: مسودّات القوانين الضائعة
المشكلة الأهم، تبقى تأخر مناقشة قانون إعادة الانتظام المالي، والقانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. مع الإشارة إلى أنّ مجلس النوّاب تلقى في مرحلة سابقة مسودّة لقانون إعادة الانتظام المالي، على أساس كونها معدّة من قبل فريق العمل الحكومي، قبل أن يتم سحبها لاحقًا. وكان الواضح خلال النقاش في اللجنة وجود بعض اللغط، بخصوص المرحلة التي وصل لها إعداد المسودّات، والجهة التي يفترض أن تتابع إرسالها إلى المجلس النيابي. الإشكاليّة الأهم، هي أنّ مسودّة مشروع قانون إعادة الانتظام المالي جرى تعديلها لتشمل مسألة صندوق استرداد الودائع، والتي –حسب المعطيات المتوفّرة- ما زالت حتّى اللحظة موضع تحفّظ من جانب صندوق النقد، وهو ما يطرح السؤال عن مدى تطابق هذه المسودّة مع شروط الصندوق.
لكل هذه الأسباب، ما زال التفاهم على مستوى الموظفين أسير الأخذ والرد، رغم مرور فترة طويلة على توقيعه. وكما هو واضح، ترتبط العراقيل التي تحول دون تنفيذ كل شرط بمصالح متنوّعة ومختلفة، إلا أنّ جميع هذه المصالح تخص الفئات الأكثر نفوذًا داخل المنظومة السياسيّة والنظام المصرفي. وهذا تحديدًا ما يعيد التأكيد أن أكلاف الانهيار التي يدفعها اللبنانيون اليوم، ليست سوى ثمن حماية مصالح هذه الفئات.