حَمَلَ الكثيرون من مزارعي التبغ في القرى الحدودية محصولهم العام الماضي وسلّموه في مراكز خارج قراهم، وتحديداً في النبطية وتبنين، خوفاً من الاعتداءات الإسرائيلية التي انطلقت في تشرين الأول 2023. سلَّمَ هؤلاء محاصيلهم إلى إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي”، على أمل التهدئة والتحضير لزراعة موسم العام 2024. وتحضيراً لهذا الموسم، عمدت الريجي إلى زراعة الشتول، ودعت مزارعي القرى غير الحدودية إلى زيادة أعداد الشتول ليساعدوا بذلك مزارعي القرى الحدودية في كسب الوقت والتحضير لزراعة الموسم الجديد. لكن لم يأتِ الواقع على قدر الآمال، فكما فرغت القرى الحدودية من سكّانها، فرغت حقولها من شتول التبغ، وبقي المزارعون مبعثرون في القرى والمدن البعيدة من الحدود، فخسروا موسمهم ولقمة عيشهم. إلاّ أن الريجي قرَّرَت اعتماد آلية للمساعدة، علّها تخفِّف العبء عنهم.
زيادة في الأسعار
بدأت اليوم الثلاثاء 10 أيلول عملية تسلُّم الريجي لمحصول التبغ من المزارعين الجنوبيين، وذلك قبل نحو شهر ونصف الشهر من موعد التسليم المُعتَمَد في السنوات السابقة. ويعود تعديل الموعد إلى استباق أي تصعيد إسرائيلي قد يحرم المزارعين من تسليم محصولهم واستلام العائدات المالية. وعليه، انطلقت عمليات التسلّم في مراكز مركز بئر السلاسل – تولين، مركز صديقين، مركز صريفا ومركز تبنين، على أن تنطلق يوم غد الأربعاء عملية التسلّم من مزارعي منطقة النبطية، في مركز الريجي في قرية كفررمان.
أجواء التسليم كانت “هادئة” على حد توصيف رئيس اتحاد نقابات مزارعي التبغ حسن فقيه. وترافقَ الهدوء بحسب ما يقوله فقيه لـ”المدن”، مع زيادة في سعر التبغ. إذ “قرَّرَت إدارة الريجي إضافة 1.5 دولار على كل كيلو تبغ، وفق لائحة الأسعار المعتمدة لكل قرية (الباريم)، إلى جانب زيادة نحو 2 دولار للمزارعين كمساعدة اجتماعية”. ويوضح فقيه أن “مَن زَرَعَ موسمه، يحصل على زيادة 1.5 دولار، ومَن لم يزرع، يحصل فقط على المساعدة الاجتماعية، بناءً على الكميات التي سلّمها العام الماضي إلى الريجي التي تملك بيانات المزارعين”. ويرى بأن هذه المساعدة “تغطّي هامش الربح للمزارع”، على اعتبار أن القسم الباقي من قيمة الكيلو يغطّي الأكلاف.
ورغم هدوء عملية التسليم في المراكز المعتمدة، إلاّ أن الأسعار لم تتناسب مع حجم الغلاء المعيشي الذي يواجهه المزارعون الذين يلتقون في حديثهم لـ”المدن” حول نقطة “عدم توافق الأسعار مع الأكلاف وحاجات المزارعين”. وعن زيادة الأسعار والمساعدة الاجتماعية المقرَّة لهذا العام، يرى المزارعون أنها “ضرورية، وبادرة إيجابية من الريجي، لكنها لا تحلّ أزمة مزارعي التبغ. فهذه المهنة باتت متعبة جداً والحديث عن صعوباتها يتكرّر من موسم لآخر، وفي المحصّلة، يدور مزارع التبغ في دوامة الديون التي لا تنتهي، فهو يستدين على مدار العام ليسدِّد ديونه عند تسليم المحصول، ولأن العائدات المالية بالكاد تسدّ الحاجات الأساسية، بقيت الأمور على حالها لعقود”. ويلفت المزارعون النظر إلى أن الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في العام 2019 “حطّمَت مزارعي التبغ، وبات الحلّ يعتمد على صيغة عامة ومتكاملة من قِبَل الدولة والريجي، تراعي الارتفاع المستمر لأسعار السلع والخدمات ومتطلّبات زراعة التبغ وتحسين أسعار التسليم”.
الموسم الأخير
تدحرجت الأوضاع الأمنية في الجنوب واشتدَّ القصف وفرغت القرى الأمامية من سكّانها، وتالياً من أي نشاط زراعي، سيّما زراعة التبغ. وإذا كان موسم التبغ في العام الماضي سُلِّمَ تحت القصف، فإن الموسم الحالي لم يكن موجوداً على خريطة أبناء الشريط الحدودي، باستثناء “قرية رميش التي زرعت هذا العام نحو 60 بالمئة من قدرتها”، بحسب فقيه.
لم يُفاجأ مزارع التبغ عماد مواسي بعدم قدرته على زراعة موسم العام الجاري في قريته عيترون. إذ أن مسار الحرب “كان واضحاً منذ البداية. والقصة ستطول”. ومع ذلك، تبدو الحسرة واضحة في كلامه لـ”المدن”. فلا أحد يرغب بعدم زراعة أرضه، لكن لا خيار آخر أمام مزارعي القرى الحدودية الذين خرجوا من أرضهم قسراً.
شتّان ما بين الأمس واليوم، بالنسبة لمواسي. ففي العام الماضي “عانينا كثيراً لإحضار التبغ من عيترون، وسلّمنا إنتاجنا في النبطية. لكن هذا العام لم نستطع الوصول إلى القرية وبالتالي، لم نزرع شيئاً لهذا الموسم”.
كانت تلك المعاناة هي الصورة الباقية من الموسم الأخير بالنسبة لمواسي وغيره الكثير من مزارعي القرى الحدودية الذين ينظرون اليوم إلى زملائهم يسلّمون محصول العام الحالي. وتكمن الصعوبة في احتمالات ألاّ يعود المزارعون إلى أراضيهم قريباً للتحضير لزراعة الموسم المقبل. ولا تقف الخسارة عند هذا الحدّ. فوفق مواسي، البقاء في الرقية يعني الكثير على المستوى المادي وليس فقط على المستوى المعنوي. لأن “الانتهاء من موسم التبغ يترافق مع التحضير لموسم الزيتون، وقد خسرنا الموسمَين لهذا العام. والآتي اعظم”.
تتخطّى مسألة عدم زراعة التبغ في القرى الأمامية سردية حرمان المزارعين من عائدات مالية هُم بأمسّ الحاجة إليها لمواجهة الضائقة الاقتصادية. إذ تصل المسألة إلى حدّ التساؤل حول التهجير المستمر وتداعياته على المزارعين والقطاع الزراعي هناك. فالحرب مستمرة “والحقول تزداد تلوّثاً بقنابل الفوسفور. ما قد يعني عدم القدرة على زراعتها في حال توقّفت الحرب سريعاً. أما إذا استمرّت لسنة إضافية، فالوضع سيزداد سوءاً”.
عقدة تأجير التراخيص
الاحتمالات مفتوحة أمام الجميع. الحرب تزيد الثقل على المزارعين، والريجي تحاول تقديم المساعدة بدون القدرة على إيجاد حلٍّ مستدام، “لكن هذا أفضل الممكن”، برأي فقيه الذي يلفت النظر إلى أن “المساعدات الاجتماعية لمزارعي القرى الحدودية، ستصل في مواعيد ومراكز تسليم تحدّدها الريجي لاحقاً، فآلية المساعدات جاهزة، وسيُعلَن عنها بعد انتهاء مرحلة تسلُّم التبغ”. لكن المساعدة الاجتماعية المنتَظَرة للمزارعين تفتح العيون على سؤال يفرضه سماح الريجي بتأجير تراخيص الزراعة. فكما هو معلوم، يمكن لمزارعٍ يملك ترخيصاً بالزراعة، أن يؤجّر الترخيص لشخص آخر. وعليه، لمَن تُدفَع المساعدة الاجتماعية في هذه الحالة، لصاحب ترخيص لا يزرع أم لمزارع لا يملك ترخيصاً؟
يوضح فقيه أن مسألة التراخيص تُناقَش في الريجي “وطموحنا أن تعطى أذونات الزراعة لمن يزرع فقط، وننتهي من مسألة التأجير”. ويستعرض فقيه كيف وصل الأمر إلى هذا الواقع، فيقول إنّ السماح بتأجير أذونات الزراعة، أو التراخيص “حصل في فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، وكانت الفكرة تهدف إلى تشجيع المزارعين على البقاء في أرضهم وزراعتها، وكذلك إلى تفتيت التراخيص الكبيرة ليستفيد منها أكبر قدر من العائلات”. وإلى حين حسم هذه المسألة “اقترحت الريجي تقاسم المساعدة الاجتماعية بين صاحب الترخيص والمُزارع”، وهذا ما يراه المزارعون “إجحافاً كبيراً”. وبرأيهم “الأصل في هذه المسألة هو عملية الزراعة وتحمُّل كلفتها ومشقّتها، بغضّ النظر عن الترخيص القانوني”. ويشير بعض المزارعين إلى أن “بعض حاملي التراخيص كانوا مزارعين وفقدوا القدرة على الزراعة، وهؤلاء يجب أن يتم إيجاد حلّ منصف لهم. لكن في المقلب الآخر، هناك مَن يملك ترخيصاً وفق مبدأ الاحتكار، فلا يريد أن يزرع، بل أن يستفيد من عائدات الإيجار فقط. وهنا يجب على الريجي أن تعيد النظر في التراخيص، وفق مسحٍ تجريه على الأرض بعد انتهاء الحرب”.