مع انعقاد ثالث جلسات اللجنة الفرعيّة، المخصّصة لدراسة مشروع إدارة الأصول العامّة وربطها بسداد الودائع، بدا أنّ الفكرة بأسرها باتت مكبّلة بإشكاليّات يصعب حلّها سريعًا في المدى المنظور. فالاستقطاب الطائفي سرعان ما ظهر حول الجهة التي ستشرف على هذا المشروع العملاق، الذي سيفتح باب تحاصص امتيازات تشغيل وإدارة جميع المرافق العامّة تقريبًا. كما أنّ فكرة ربط استثمار هذه الأصول بمسألة سداد الودائع باتت موضع تشكيك، بعدما كانت هذه الفكرة نفسها المبرّر الأساسي للمشروع. وعلى هذا الأساس، صار من الواضح أن عمل اللجنة نفسه لم يعد يتّسم بالكثير من الجديّة، ولم يعد هناك ما يوحي أنّ ما يتم النقاش حوله سيفضي إلى صيغة قابلة للإقرار في الهيئة العامّة.
الاصطفاف الطائفي في نقاشات اللجنة
في نقاشات اللجنة الفرعيّة، ثمّة إصرار واضح من جانب التيّار الوطني الحر والقوّات اللبنانيّة على استحداث إطار جديد، يشرف على عمليّة إدارة وتلزيم استثمار المرافق العامّة. في مشروع التيّار، الإطار هو الصندوق الإئتماني، الذي يديره مجموعة من المدراء العامّين في عدّة وزارات تشرف على المرافق العامّة. في مشروع القوّات، الإطار هو مؤسسة مستقلّة ذات هيئة عامّة، يتشكّل أغلبها من نقباء مهن حرّة، وتضم حاكم المركزي ورئيس المجلس الأعلى للخصخصة ورئيس هيئة الشراء العام ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي. في الحالتين، تُحال المرافق العامّة إلى سيطرة جهة جديدة، بعيدًا عن سلطة وزارة الماليّة.
يبدو الثنائي الشيعي، وخصوصًا حركة أمل، حذرًا للغاية إزاء هذا النوع من المقاربات. فإنشاء هذه المؤسسة أو الصندوق، سيعني إقصاء وزارة الماليّة -والتوقيع الشيعي الثالث معها- عن أي دور في إدارة إيرادات هذه المرافق. وهذا ما يحصر دور وزارة الماليّة في إدارة التحصيل الضريبي التقليدي، أي ضريبة الدخل والرسم الجمركي والضريبة على القيمة المضافة وغيرها من رسوم المعاملات. من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم الخطوة التي قامت بها حركة أمل قبل بدء اجتماعات اللجنة الفرعيّة، والمتمثّلة بسحب مقترحها الخاص بإدارة الأصول العامّة، من مناقشات اللجنة، لمنع دمج هذا المقترح بمقترحي القوّات والتيّار.
اعتراض الثنائي الشيعي على المشروع المطروح، أي جمع الأصول والمرافق العامّة في صندوق أو مؤسسة، سيقضي على إمكانيّة تمرير الفكرة لاحقًا في الهيئة العامّة. إذ بالإضافة إلى امتلاك رئيس المجلس سلاح ترتيب مشاريع القوانين على جدول أعمال الهيئة العامّة، من غير المرتقب أن يتم التصويت على مشروع ضخم ومصيري من هذا النوع، بغياب الحد الأدنى من “التوافق الميثاقي” عليه. وفي جميع الحالات، لا يبدو أنّ القوّات والتيّار سيتمكّنان من تأمين أي أغلبيّة داخل الهيئة العامّة للمجلس، لدعم هذه الفكرة، إذا دخل المشروع في إطار الاستقطاب الطائفي الحاد.
هكذا، أصبح رئيس اللجنة الفرعيّة إبراهيم كنعان مدركًا لأولى العقبات التي تعرقل مشروعه: لن يكون بإمكانه إحالة المرافق العامّة إلى صيغة تنظيميّة جديدة، بعيدًا عن إشراف وهيمنة وزارة الماليّة. الجانب الوحيد من المشروع، الذي وافقت عليه حركة أمل سابقًا، هو ربط استثمار الأصول -بشكل ما- بعمليّة سداد الودائع. غير أنّ هذا الجانب من المشروع أصبح بدوره موضع تشكيك اليوم.
فكرة ربط الأصول بسداد الودائع
مبرّر المشروع الأوّل، كان تسديد الودائع الموجودة في القطاع المصرفي، من باب “تحميل الدولة مسؤوليّتها” في هذا المجال، تمامًا كما تطالب جمعيّة المصارف والقوى التي تدور في فلكها منذ بداية الأزمة. فكرة ربط استثمار الأصول بسداد الودائع، كانت منذ البداية القاسم المشترك بين مشاريع أمل والتيّار والقوّات، التي اختلفت لاحقًا في الطريقة المقترحة لإدارة هذه الأصول. وكما أشرنا سابقًا، أدّى الخلاف حول طريقة الإدارة وجهة الإشراف إلى سحب مشروع حركة أمل من التداول في الوقت الراهن.
بعد بدء اجتماعات اللجنة الفرعيّة، وتقدّم النقاشات فيها، تبيّنت سريعًا درجة العبثيّة في طرح الربط ما بين سداد الودائع واستثمار الأصول العامّة، وفي هذه المرحلة بالذات. لم يتمكّن أصحاب المشروع من تقديم أي أرقام أو تدقيق لتبيان حجم الفجوة المصرفيّة، التي يعد المشروع بسدادها من إيرادات استثمار الأصول العامّة. ولم يقدموا أي دراسة جدوى، تحدّد أثر المشروع على الماليّة العامّة وإيرادات الدولة، بعد تحويل نسبة من وارداتها لسداد الودائع على هذا النحو. وعلى أي حال، كان من الغريب مناقشة الفكرة أساسًا، قبل البحث في مشروع إعادة هيكلة المصارف، الذي سيحدّد مسؤوليّة المصارف أولًا، قبل البحث في مسؤوليّة الدولة.
العبثيّة ظهرت أيضًا عند مناقشة بعض المخاطر المرتبطة بالمشروع، مثل أثره على مفاوضات لبنان مع صندوق النقد، الرافض من حيث المبدأ لفكرة تحويل الودائع إلى ديون سياسيّة. كما طُرحت أسئلة أخطر حول تداعيات الفكرة على موقف لبنان القانوني أمام حملة سندات اليوروبوند، الذين سيتذرّعون بالمشروع للطعن باستقلاليّة المصرف المركزي، بمجرّد تحويل خسائره إلى دين عام. وهذا ما سيعني إتاحة الحجز على أملاك المصرف الموجودة في الخارج، وخصوصًا احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة.
ولكل هذه الأسباب، أرجأت اللجنة البحث في مسألة ربط استثمار الأصول بتسديد الودائع. وهو ما يعني عمليًا إرجاء البحث في الحجّة الأولى التي تم استعمالها لمناقشة المشروع، أي حجّة تسديد الودائع. وبهذا الشكل، بات بإمكاننا السؤال: ماذا تبقّى من المشروع بعد الإطاحة بفكرة تجميع الأصول في مؤسسة جديدة أو صندوق مستحدث؟ وماذا تبقّى بعد إرجاء البحث في مسألة ربط استثمار الأصول بتسديد الودائع؟ من الناحية العمليّة: لا شيء. ما تقوم به اللجنة الفرعيّة اليوم صار أقرب إلى تمرير الوقت، وملء الفراغ ببعض النقاشات التي توحي بالسعي لمعالجة أزمة الودائع.