الصناعة اللبنانيّة تنقذ لبنان اذا توفرت الإرادة الوطنية

بقلم: هشام أبو جودة – خبير بالاقتصاد السياسي

 

يشير الدكتور نجيب عيسى في كتابه اقتصاد لبنان السياسي وإعاقة التنمية إلى أنّ النموذج الاقتصادي المتّبع منذ أيام الانتداب وخلال الجمهوريّتَين الأولى والثانية، والقائم على ثلاثة مرتكزات: جدلية الخارج (الارتهان للخارج)، والطائفية السياسية (النظام الطائفي)، والاقتصاد غير المنتج (الاقتصاد الريعي أو الخدمي)، قد أثبت فشله في بناء اقتصاد وطني تنافسي ومستقر.

وفي مراجعتنا للكتاب (التي سننشرها قريبًا)، نشيرإلى أنّ هذا النموذج، ولترسيخ نفسه في العقول، ابتكر نسبًا وأرقامًا لإخفاء حقيقة الاقتصاد اللبناني المنتج، وغلّفها برداء غيبي أطلق عليه اسم “العجيبة اللبنانية”.

وللأسف، لم تتمكّن حكومة الإصلاح والإنقاذ خلال الأشهر الثمانية الأولى من عمرها من وقف الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي والإداري. فجميع مؤشرات الاقتصاد تشير إلى أنّ النموذج الاقتصادي التقليدي الذي اعتمدته حكومة الدكتور نواف سلام لم يستطع إحداث الصدمة المطلوبة لوقف تداعيات الانهيار المستمر منذ عام 2019. فمؤشرات البطالة والهجرة والفقر والنمو وغلاء المعيشة والكلفة والاستيراد والحساب الجاري ما زالت على حالها أو سجّلت نتائج سلبية، على الرغم من محاولات الحكومة وداعميها الدوليين بث أجواء من التفاؤل والتحدث بأرقام غير مؤكدة، مع تجاهل الأرقام الحقيقية للقطاعات المنتجة، وخاصة القطاع الصناعي.

وعلى رأس هذه المغالطات والتلاعب بالمصطلحات والنسب وطرق الاحتساب، يأتي البنك الدولي، والذي تجاريه أغلب المؤسسات الاقتصادية والمالية، كما الحكومات المتعاقبة. ولإيضاح هذا التلاعب بالأرقام، وبخاصة في ما يتعلق بالقطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها الصناعة، نعرض ما ورد في التقرير الرسمي الأخير للبنك الدولي عن لبنان والصادر في ربيع هذا العام، ثم نستعرض الأرقام الحقيقية للصناعة اللبنانية وكيفية وقف الانهيار وإعادة النمو وبناء اقتصاد منتج تنافسي مستدام.

تقرير البنك الدولي

يقول التقرير إنّ حجم الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 بلغ 25 مليارًا و972 مليون دولار أميركي، وإنّ نسبة صادرات السلع من الناتج بلغت 16.3%، في حين بلغ الناتج الصناعي 12.9%.

المستغرب أولاً هو القفز مباشرة إلى النسب دون عرض الأرقام الفعلية لتحديد الصادرات والناتج الصناعي، وهذا يشمل سائر القطاعات حتى لا تظهر قيمها الفعلية.

ثانيًا، عند تحويل النسب إلى أرقام، تصبح قيمة الصادرات لعام 2024 نحو 4 مليارات و233 مليون دولار (منها، وبحسب الجمارك اللبنانية، نحو مليارين و500 مليون دولار صادرات صناعية)، فيما يبلغ الناتج الصناعي نحو 3 مليارات و350 مليون دولار. ولا يُعقل أن تشكّل الصادرات الصناعية 75% من الناتج الصناعي، لأنّ السلع المصدّرة تشكّل في المعدل نحو 50% من إنتاج المصانع المصدّرة، ولأنّ نحو 40% من المصانع لا تصدّر إنتاجها إطلاقًا.

أما الارتباك الأكبر في تقرير البنك الدولي فيظهر في أرقام عام 2023، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي 20 مليارًا و79 مليون دولار، وبلغت نسبة صادرات السلع 20.6%، والناتج الصناعي 12.9% (نسبة ثابتة تتوارثها الدراسات “النموذجية” جيلًا بعد جيل! وتظهر في التقرير على مدى عشر سنوات).

وبتحويل النسب إلى أرقام، تصبح قيمة الصادرات لعام 2023 نحو 4 مليارات و136 مليون دولار، والناتج الصناعي نحو 2 مليار و600 مليون دولار. لكن أرقام الجمارك اللبنانية تشير إلى أنّ الصادرات الصناعية بلغت 2 مليارًا و768 مليون دولار، أي إنّ قيمة الصادرات الصناعية أكبر من الناتج الصناعي نفسه، وهو ما يشكّل فضيحة علمية.

وبمقارنة الناتج الصناعي لعام 2024 بنظيره في عام 2023 وفق حسابات البنك الدولي “النموذجية”، تكون الصناعة اللبنانية قد سجّلت نموًا بنسبة 30%، وهي نسبة غير ممكنة التحقيق من دون إجراءات ودعم استثنائيين. هذا في وقتٍ تراجعت فيه الصادرات الصناعية نحو 200 مليون دولار عام 2024، مما يعزز الشكوك في دقة النسب والأرقام الواردة في تقرير البنك الدولي. فهل هو جهل أم تَقصُّد؟

بالعودة إلى عام 2018، نجد أنّ الناتج المحلي الإجمالي بلغ 54 مليارًا و902 مليون دولار، وبلغت صادرات السلع 7% منه، أي نحو 3 مليارات و843 مليون دولار (منها 2 مليار و746 مليون دولار صادرات صناعية)، فيما بلغ الناتج الصناعي 12% أي 6 مليارات و588 مليون دولار. وبمقارنة هذه الأرقام مع عام 2023، يتبين أنّ الصادرات الصناعية عام 2018 كانت أقلّ بـ22 مليون دولار من سنة 2023، وبالرغم من هذا فقد بلغ الناتج الصناعي اكثر من 6 مليارات دولار، فكيف يكون الناتج الصناعي سنة 2023 اقل من سنة 2018؟ مع الاشارة الى أنّ أغلب المصانع عام 2023 كانت قد دولرت اعمالها وأجور موظفيها وأعادتها إلى مستويات ما قبل الانهيار. وهذا يؤكد أنّ احتسابات البنك الدولي والمؤسسات المحلية والدولية للناتج الصناعي اللبناني غير صحيحة، بل تُظهر بوضوح أنّ النموذج الاقتصادي السائد يتعمّد إخفاء الأرقام الحقيقية لتجنّب انكشاف حقيقة أنّ الصناعة اللبنانية هي من تحمل لبنان على أكتافها، وتحافظ على استمرار الدورة الاقتصادية، خاصة في أوقات الأزمات.

واقع الصناعة وفرصة الإنقاذ

يتفق معظم الخبراء الاقتصاديين على ضرورة إحداث “صدمة إيجابية” توقف الانهيار وتعيد تحريك عجلة العمل والإنتاج بما يحفّز النمو ويخلق فرص العمل، ويخفض معدلات البطالة والهجرة والفقر، ويحدّ من الخلل في الميزان التجاري والحساب الجاري.

ولتحقيق ذلك، نقترح ثلاثة محاور رئيسية:

1- استعادة 20 مليار دولار من أموال المودعين وضخّها في السوق عبر حساباتهم وتحريكها.

2- تنمية ونمو القطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها الصناعة.

3- تطوير هذه القطاعات على قاعدة بناء وتوسيع اقتصاد المعرفة.

وبما أنّ استعادة أموال المودعين ما زالت بعيدة المنال، وأنّ اقتصاد المعرفة يحتاج إلى استثمارات غير متوفّرة وتغييرات هيكلية عميقة خاصة في التربية والتعليم كما يحتاج إلى وقت طويل لظهور نتائجه، يبقى الخيار الأقرب والأنسب هو تنمية القطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها الصناعة.

يُطرح هنا السؤال: هل تستطيع الصناعة اللبنانية النهوض بهذه المهمة؟ وما المطلوب لتحفيزها؟

يبلغ عدد المصانع، بحسب دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية “الدليل الصناعي”، نحو 9,000 مصنع، منها 4,000 في القطاع غير المنظّم، وتنتج 1,738 نوعًا من السلع، يُصدَّر منها 1,238 نوعًا. ويعمل في القطاع نحو 300 ألف عامل، مع توفر 50 ألف فرصة عمل إضافية بحسب دراسة ميدانية أجريت عام 2023. بلغت الصادرات الصناعية حتى نهاية تموز 2025 نحو ملياري دولار، ما يشير إلى نمو مقارنة بالسنوات السابقة. وقدّر الخبراء الناتج الصناعي بما لا يقلّ عن 9 مليارات دولار، وبما لا يتجاوز 12 مليارًا إذا احتُسبت القيم الفعلية للإنتاج والصادرات. وتؤكد هذه الأرقام على وجود قاعدة صناعية منتجة ومصدّرة، رغم أن المصانع تعمل بنصف طاقتها الإنتاجية حسب المعايير الدولية.

أظهرت دراسة لعمليات الاستيراد والتصدير، استنادًا إلى البنود الجمركية التفصيلية، أن العجز في الميزان التجاري عام 2024 بلغ 14 مليارًا و194 مليون دولار، ناجمًا عن استيراد سلع بقيمة 16 مليارًا و901 مليون دولار، منها 6 مليارات دولار لاستيراد 1,236 نوعًا من السلع تنتج الصناعة اللبنانية مثيلاً لها بالجودة نفسها وتقوم بتصديرها أيضًا. كما بلغ العجز في الحساب الجاري نحو5 مليارات دولار.

من هنا تبرز الفرصة الحقيقية لإحداث الصدمة المطلوبة عبر وضع اجراءات جمركية حمائية على 1,236 نوعا من السلع تنتج محليًا.

ستؤدي هذه الإجراءات إلى خفض الاستيراد بما بين 3 و4 مليارات دولار من السلع المحمية خلال فترة لا تتجاوز 18 شهرًا وتحويل الطلب عليها الى الانتاج الوطني، وزيادة الصادرات الصناعية بين 500 مليون ومليار دولار في الفترة نفسها، مما يقلّص العجز في الميزان التجاري إلى أقل من 10 مليارات دولار، ويساهم في ردم فجوة الحساب الجاري، ووقف نزف العملات الصعبة، وتحفيز النمو وجذب الاستثمارات الجديدة. كما ستزيد إيرادات الدولة الجمركية بما لا يقل عن 600 مليون دولار خلال الفترة نفسها، وسيرتفع الناتج الصناعي بنحو 5 مليارات دولار، ما يخلق 100 ألف فرصة عمل جديدة في الصناعة و100 ألفًا إضافية في القطاعات المرتبطة بها (التجارة، النقل، الخدمات…).

يجب أن تترافق هذه الإجراءات الجمركية مع تدابير تخفّض كلفة الإنتاج الصناعي وتنظّم عمل المصانع غير النظامية، ما يساهم في خفض أسعار السلع وتراجع معدلات التضخّم. فالصناعة اللبنانية قادرة تدريجيًا على تغطية حاجات السوق المحلي من السلع المحمية، ويمكن لاحقًا توسيع نطاق الحماية ليشمل سلعًا صناعية أخرى بعد التحقق من مطابقتها للمواصفات.

ملاحظة: يمكن تطبيق هذه الإجراءات الحمائية استنادًا إلى بنود الاتفاقيات التجارية التي تتيح ذلك في حالات الأزمات الاقتصادية، خاصة الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي واتفاقية التيسير العربية، وجميعها معفاة من الرسوم الجمركية، ما يشكّل منافسة غير عادلة للسلع اللبنانية في ظل الانهيار القائم.

إنّ تطبيق معادلة إنتاج الصناعة الوطنية لل 1,236 توع من السلع المستوردة وتحقيق الرقم السحري 5 مليارات دولار يشكّلان فرصة حقيقية لإنقاذ لبنان. وهذه الفرصة تحتاج إلى جرأة في مواجهة النموذج الاقتصادي التقليدي القائم على الخدمات، والانطلاق نحو اقتصاد إنتاجي مستقر وغير مرتهن للخارج ، وتوقيف “الشحادة” وانتظار الدعم وما يسمى باستثمارات دائنة لن تأتي ابدا.

مصدرالديار
المادة السابقة4.36 مليارات دولار ودائع «فريش»… نصفها محجوز!
المقالة القادمةالاقتصاد العالمي تحت رحمة ترامب