جرَّت الضريبة الاستثنائية على الشركات التي استفادت من منصة صيرفة خلال الأزمة، والتي أقرّها مجلس النواب ضمن موازنة العام 2024، سلسلة من ردود الفعل داخل القطاعات الاقتصادية التي ترى نفسها متضرّرة من دفع ضريبة بقيمة 10 بالمئة من حجم أعمالها. وعلى رأس تلك القطاعات، الشركات المستوردة للنفط، والتي توقّفت عن تسليم المحروقات إلى حين إيجاد حلّ للمسألة.
ويرى المعترضون على الضريبة، أنها مجحفة بحقّ الشركات. وإذا كان القصد منها إعادة تحصيل ما يُحتَمَل أن الشركات قد حقّقته من ربح مالي بفعل سياسة الدعم، فإن رئيس تجمّع الشركات المستوردة للنفط مارون شماس، يؤكّد أنه “لا يمكن معاقبة الشركات الملتزمة بالقوانين”. على أن جوهرَ المسألة أبعد بكثير مما يبدو عليه.
الطاقة غير مسؤولة
تعكس الموازنات العامة المتلاحقة التي تحمل كمّاً ضريبياً هائلاً، عمق الأزمة المستمرة، على عكس ما تشيّعه السلطة السياسية التي تبحث بشتّى الوسائل عن مصادر للتمويل. وابتدعت السلطة فكرة تحصيل مبالغ مالية من الشركات التي استفادت من أموال دعم الاستيراد، عن طريق تأمين الدولارات وفق سعر منصّة صيرفة.
إقرار هذه الضريبة، يعني أن السلطة تشكّك بأرباح الشركات المستورِدة، ولذلك تريد استعادة بعضها بحجّة أنها أتت بفعل استغلال الدعم. وفي هذه الفكرة، فرضٌ للقانون بمفعول رجعي عن أعمال تجارية استفادت بشكل قانوني من دولارات مدعومة. حتى أن حصول الشركات على الدولارات المدعومة من مصرف لبنان، جاء وفق طلبات حصلت على موافقات من المصارف التجارية والوزارات المعنية بالاستيراد، خصوصاً وزارتيّ المالية والاقتصاد، وكذلك مصرف لبنان. أي أن الاستيراد والتسعير والبيع والربح، جرى بموافقة الدولة اللبنانية وأجهزتها. وبالتالي، لا مبرِّر لإعادة دفع مبالغ مالية بمفعول رجعي على العمليات التجارية التي غطّاها الدعم.
وبما أن الشركات المستوردة للنفط تحمل لواء الدفاع عن المستوردين والوقوف في وجه الضريبة الاستثنائية عبر وقف تسليم المحروقات، تلفت وزارة الطاقة النظر إلى أنها ليست مسؤولة عمّا يحصل في القطاع. وذكّرت في بيان لها أن “سياسة دعم سعر الصرف أمّنت إستمرارية لحجم السوق مقارنةً مع ما كان سيكون عليه بدون الدعم مما أدّى لتقليص حجم انخفاضه من جرّاء الأزمة المالية والاقتصادية، وبالتالي إنعكس إستمراريةً لربح الشركات التي تحدد الوزارة هامشها بالتسعيرة الرسمية التي تصدرها، مع العلم أن هذا الهامش بقي نفسه قبل وخلال وبعد فترة الدعم”.
أما الحديث عن تحقيق أرباح كبيرة من خلال عمليات الهدر والفساد التي طالت تنفيذ سياسة الدعم، فتجزم الوزارة أنها “والحكومة الحالية، ليستا مسؤولتين عن الهدر الذي تأتّى عن سياسة الدعم العشوائي الذي استفاد منه الأكثر استهلاكاً وانفاقاً، وبالتالي إقتداراً”.
البحث في خبايا التهريب
القصد من وراء تشريع الضريبة، ولاحقاً توضيح وزارة الطاقة حول هوامش الأرباح، والتطرُّق إلى الدعم العشوائي ومَن استفاد منه، يُخرِج إلى السطح النقاش حول الرقابة التي جرت على عمليات الاستيراد خلال فترة الدعم. وهنا يبرز سؤال حول سبب اختيار المجلس النيابي فتح الباب مواربةً ومدّ اليد على أرباح يُشَكَّكُ بمشروعيّتها. ومع ذلك، لا يمكن تحميل كل الشركات تبعات تهمة غير مثبتة. وفي هذه الحالة، تقول مصادر اقتصادية متابعة لملفّ الضريبة الاستثنائية، أنه “مدخل هذا الملف هو طرح وجود عمليات تجارية مخالفة للقانون، ثم إثبات المخالفة، ثم فرض ضريبة أو غرامة على المخالفين”. وهنا، يقول مستوردو النفط أنّهم سعّروا وفق ما طلبته وزارة الطاقة، والتي أكّدت ذلك بنفسها. ما يعني في الشكل، أن الشركات المستوردة للنفط لم تحقق أرباحاً تثير الشك وتستدعي الضريبة.
في المضمون، المسألة أعمق. فتضيف المصادر خلال حديث لـ”المدن” أن “قرار الضريبة لم يأتِ من فراغ، بل هو بفعل اليقين بوجود أرباحٍ هائلة أتت نتيجة الدعم. لكن ليست كل الأرباح قابلة للملاحظة والتتبُّع الدقيق، فباب التهريب على سوريا بقي مفتوحاً خلال فترة الدعم، وعبر هذا الباب حقّق الكثير من التجّار أرباحاً خيالية وغير مشروعة. ولا يعني ذلك الاتهام المباشر لمستوردي المحروقات، وإنما يعني ضرورة تدقيق الدولة بعمليات الاستيراد المدعومة، ويمكن ذلك بدءاً من مطابقة جداول وزارتيّ الاقتصاد والمالية، بالإضافة إلى لوائح مصرف لبنان”.
والتدقيق في عمليات الاستيراد ينسحب على المرحلة التالية، وهي دخول البضائع إلى السوق. وهنا، تعود شركات النفط إلى القضية “فتلك الشركات تعطي المحروقات للموزّعين الذين ينقلونها إلى المحطات ثم إلى المستهلكين، ونحو 80 بالمئة من عملية الانتقال تتم عبر جهات تملكها الشركات المستوردة، أو تابعة لها. والتهريب حصل ضمن عمليات النقل”.
وبعيداً من حقّ الدولة باستعادة أموالها، وحق الشركات في الفصل بين المرتكبين وغير المرتكبين، يقول الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة في حديث لـ”المدن”، أن “مَن طرح بند الضريبة أخطأ بعدم التشاور مع المعنيين، أي الشركات. إذ لا يمكن القول لهم بأنهم مخالفون بدون تبيان الحقائق والأدلة، وفي الوقت نفسه، لا يمكن للشركات التوقّف عن توزيع المحروقات وأخذ البلد رهينة، سيّما وأن 95 بالمئة من النشاط الاقتصادي يعتمد على المحروقات نظراً لاعتماده على الطاقة، وكذلك فإن المستشفيات قد تتضرّر من عدم توفير المحروقات فيما لو طالت مدّة التوقّف عن التوزيع”. ويحذّر عجاقة من أنه “إذا لم تُحَلّ القضية سريعاً، فالبلد ذاهب إلى إشكالية كبيرة”.
استعادة أموال غير مدفوعة للدولة
قد يحتاج موضوع التثبّت ممّا كسبته الشركات عبر سياسة الدعم، وقتاً طويلاً. وإلى حينه، يمكن للدولة البدء باستعادة أموالها الضائعة في دهاليز تسعيرة المحروقات. فداخل التسعيرة، تقبع الضرائب والرسوم التي لا تستوفيها الدولة، لكن تأخذها الشركات من المستهلكين. ويشير مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة، ومحلل سياسات الشراكة مع القطاع الخاص لدى المعهد اللبناني لدراسات السوق LIMS، غسان بيضون، إلى أن “وزارة الطاقة تصدر جدول تركيب للأسعار، يتضمّن الضرائب والرسوم الموضوعة على كل صفيحة من المحروقات، في حين أن المحروقات تأتي من دول اوروبية بينها وبين لبنان اتفاقيات تجارية تعفي تلك المحروقات من الضريبة”. وبالتالي، يقول بيضون في حديث لـ”المدن”، أن “المواطن يدفع ثمن صفيحة المحروقات مع ضرائبها، وتستوفي الشركات السعر وتدفع للدولة قيمة المحروقات بلا ضرائب ورسوم. ومع أنّ “ديوان المحاسبة أصدر رأياً استشارياً أكّد فيه أنه تم تحميل المستهلك رسماً جمركياً لم تدفعه الشركات المستوردة، ويقتضي استرداد تلك المبالغ لصالح الإدارة وإعادة استعمالها في ما يعود بالنفع العام وذلك بموجب أوامر تحصيل تصدر عن وزارة المالية. وأيضاً، وجّه رئيس المجلس الأعلى للجمارك العميد المتقاعد نزار خليل، في شباط 2017، كتاباً إلى وزارة الطاقة يعلمها أن جداول أسعار مبيع المحروقات السائلة ما زال يتضمّن الرسم الجمركي على المحروقات السائلة بما فيها تلك المستوردة من بلدان يرتبط معها لبنان باتفاقيات تجارية تعفيه منه. يرجى التفضّل بالاطّلاع وأخذ العلم وإجراء اللازم في ما يتعلّق بهذ االأمر. مع الإشارة إلى أن إدارة الجمارك لا تستوفي أي رسوم جمركية على إرساليات المحروقات السائلة المستوردة من بلدان يرتبط معها لبنان باتفاقيات تجارية. ولكن وزارة الطاقة لا تزال تصدر جداول الأسعار متضمّناً الضرائب والرسوم.
إقرار الضريبة الاستثنائية فتحَ الباب على المجهول، وخصوصاً في قطاع النفط، نظراً لدخوله في كل القطاعات الاقتصادية أولاً، ولقوّة لوبي المستوردين ثانياً، وما قد يذهب إليه هذا اللوبي من شلّ لحركة البلد فيما لو لم يجرِ الانصياع لرغباته. وهنا، ترجّح المصادر أن يُصار قريباً إلى “إيجاد مخرج قانوني لقرار الضريبة المتسرِّع، خصوصاً وأن قانون الموازنة لم يُنشَر بعد، ويمكن تمرير ما يُتَّفَق عليه بغطاء سياسي”.