انهيار المنظومة الصحية سيؤدي إلى كارثة في بلد يرزح أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر (فضل عيتاني)
في الوقت الذي يجهد فيه الضمان الاجتماعي للخروج من باب مصرف لبنان منتصراً بتحصين تعويضات نهاية الخدمة وحمايتها من الاحتراق في آتون انهيار العملة، يطل رفع الدعم عن الدواء برأسه من “الشباك”، مهدداً بانهيار منظومة الضمان الصحية.
“موس” الأزمة وصل إلى “ذقن” المرضى ومؤسساتهم الضامنة. و”مغّيطة” الدعم التي يجري شدّها اليوم إلى حدها الأقصى، ستنقطع غداً، وستُسقط المتحلقين على طرفيها من مؤسسات ومواطنين. صحيح ان كل الجهات الضامنة الرسمية، من الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة والطبابة العسكرية ومصالح الصحة في القوى الامنية… تتقاضى اشتراكاتها ومخصصاتها بالليرة اللبنانية، إلا ان تأثير رفع الدعم عن الدواء عليها سيكون متفاوتاً.
الجهات الضامنة ورفع الدعم
“الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي” سيكون المتأثر الاكبر، وذلك بسبب ضخامة حجمه وأعداد المنتسبين اليه من القطاعين العام والخاص أولاً، ولاضطلاعه بمهام ومسؤوليات تتجاوز التغطية الصحية والاستشفائية والتعويض عن شراء الادوية، لتصل إلى تعويضات نهاية الخدمة ثانياً. أما ثالثاً والاهم فهو بسبب العجوزات والخسائر المالية الكبيرة التي مني بها في السنوات الاخيرة، حيث لم يبقَ أحد إلا واستغله. الدولة تمتنع عن تسديد ما يتوجب عليها من جهة وتحجز على توظيفاته بسندات الخزينة من جهة أخرى. ومئات الشركات في القطاع الخاص تمتلك دفترين ولا تصرّح عن حجمها وأعداد عمالها. وبعض المراقبين يشتركون مع المستشفيات في تضخيم الفواتير الصحية والاستشفائية. وفوق هذا كله يتهم الضمان من قبل فريق كبير من مجلس ادارته بسوء الإدارة والامعان في إضعاف دوره على المستوى الوطني.
“الضمان” مهدّد بالافلاس
إذا كان الدواء الجنيس “جنريك” هو البديل الوحيد للمواطنين في حال رفع الدعم وارتفاع أثمان أدوية العلامات التجارية المشهورة “الماركات”، فإن في هذا الدواء أيضاً شفاء علة اساسية من علل “الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”. فداء ارتفاع الاسعار وما سيسببه من تضخم في فاتورة الانفاق على الدواء والاستشفاء “قد يفلس الصندوق”، بحسب عضو مجلس الادارة في “الضمان” الدكتور عادل عليق، “خصوصاً بعدما بلغ العجز السنوي في فرعي المرض والامومة 200 مليار ليرة. وقد تكبد فرع تعويضات نهاية الخدمة لغاية الآن 40 في المئة من أمواله لتعويض العجز”. بكلام آخر فان أكثر من ثلث تعويضات الموظفين والعمال متبخرة وغير متوفرة، واذا أضيف هذا الرقم الى توظيفات “الضمان” الكبيرة في سندات الخزينة، التي تمتنع الدولة عن دفعها، يتحول عصب الصندوق إلى خاسر.”الامر الذي يجعل من الضمان في شكله الحالي مفلساً مع وقف التنفيذ أو الاعلان”، برأي عليق.
الإصلاح ما زال ينفع
ما يظهر على انه حلقة مقفلة من الأزمات تصيب كل المؤسسات، ليس في الواقع سوى نتيجة حتمية لتغييب الاصلاحات طيلة السنوات الماضية. وكغيره من المؤسسات، لا يتطلب الخروج من محنة “الضمان” سوى رفع الشبكة السميكة من المنافع والمصالح الضيقة عن مفاصله.
“التيار الاصلاحي داخل الضمان الاجتماعي” طرح مجموعة من الاجراءات الكفيلة بالمحافظة على “الصندوق” وتطويره رغم كل الصعاب والمشاكل، أبرزها:
– إعتماد سياسة دوائية مختلفة تقوم على استبدال أدوية العلامات التجارية “الماركات” التي تحفظ مصالح الشركات فقط، بأدوية الجنريك. هذا الاجراء يقلص فاتورة الدواء السنوية من 450 مليار ليرة سنوياً إلى أقل من النصف.
– ضبط الاستهلاك في الفاتورة الاستشفائية. حيث يلحظ أعضاء اللجنة أبواباً كثيرة من الهدر يجب اقفالها.
– تطبيق القرار المتخذ في العام 2008 بدخول الضمان كشارٍ مباشر للادوية المستعصية والمرتفعة الثمن. الأمر الذي يوفر عليه سنوياً ما لا يقل عن 15 مليار ليرة. وقد أثبتت هذ الطريقة صحتها في وزارة الصحة والطبابة العسكرية.
هذه الاصلاحات ليست كفيلة بوقف الانهيار المالي في الضمان فحسب، بل إن من شأنها “تحقيق وفر مالي سنوي بقيمة 100 مليار ليرة، وتجنيب المضمونين كأس ضياع تعويض نهاية خدمتهم المرة”، يقول عليق. وبرأيه فان “هذه الاجراءات التي ظلت اختيارية لفترة من الزمن، أصبحت اليوم مع التهديد بزوال الضمان إجبارية لانها كفيلة بفرملة الانهيار الحاصل”.
يقال ان “الاعتراف بالحقيقة هو الامل في اصلاح المسار” وهو ما لا يحصل لغاية الآن. فبحسب عليق فان “الضمان يستمر في التعمية على العجز الحقيقي والارقام المالية المقلقة كي لا يظهر عجزه. وهذا ما حصل في العام 2018 حين تذرّع بان العجز بقيمة ألف و300 مليار ليرة هو عبارة عن سلفات، في حين انها كانت انفاقاً”. فهل يستمر السير في الظلام؟ أم تفتح العيون ويأخذ “الضمان” الطريق الصحيح قبل فوات الاوان؟
رفع الدعم يوفّر الدواء
الدعم على الدواء الذي كان برأي المواطنين نعمة، لم يكن بالنسبة لوكلاء الادوية ومن ورائهم الصيدليات إلا نقمة. وبحسب الصيدلي أيمن باز فان “هامش ربح وكيل الدواء الذي يتراوح بين 7 و 10 في المئة امتصه فرق الدعم بنسبة 15 في المئة المفروض تأمينه بـ “الدولار الطازج”. ومع ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الثانوية إلى أكثر من 7 آلاف ليرة، أصبح تأمين الفرق يشكل عبئاً حقيقياً، خصوصاً ان ثمن الدواء يُدفع بالليرة اللبنانية”. أما في ما يتعلق بالصيدليات، التي تقف نحو 1200 صيدلية منها على حافة الاقفال، فان الوضع ليس أحسن حالاً. وبحسب باز فان “معدل ربح الصيدلي المتوسط بعد حسم المصاريف والاكلاف، كان يقدر بحدود 2 مليون ليرة شهرياً أو ما يعادل 1300 دولار أميركي. في حين ان هذا الرقم أصبح يساوي مع انهيار سعر الصرف 263 دولاراً”. في الوقت المتوقع فيه نفاد مخزون الادوية بعد شهر يعتبر باز ان “رفع الدعم من شأنه إعاده توفير الدواء بشكل طبيعي وبكميات كبيرة. إلا انه مع الاسف، هذا لن يكون في مصلحة المواطنين والجهات الضامنة”.