قرّر مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، في جلسة عُقدت في 25 كانون الثاني الماضي، تحصيل الاشتراكات المترتبة على الأجور المدفوعة بالدولار وفقاً لسعر الصرف الفعلي، أي «السعر الأعلى المعتمد من مصرف لبنان والبالغ 89500 ليرة». بموجب القرار، ستصبح الاشتراكات المترتبة على كل راتب مدفوع بالدولار محتسبة وفقاً لسعر الدولار الفعلي بدلاً من سعر الـ15 ألف ليرة.يعدّ هذا القرار آلية تصحيحية، جزئياً، في إيرادات صندوق الضمان، بالتوازي مع تصحيح جزئي في تعويضات العمال أيضاً. أهمية التصحيح، أنّ الإيرادات التي تموّل التغطية الصحية للمضمونين وللمسجّلين على اسمهم، قد انهارت ممّا نسبته 90% من فواتير الاستشفاء و85% من قيمة الفواتير الطبية، إلى أقلّ من 10% للاثنين معاً. وبالتالي كان المضمون يدفع الفرق من جيبه الخاص. كما أدّى الانهيار في قيمة الليرة إلى ذوبان خسارة حادة في القوّة الشرائية لتعويضات نهاية الخدمة بما يتجاوز 95%. ونتيجة هذا الوضع، امتنع غالبية المضمونين عن تقديم فواتير صحية إلى الضمان، بل عزف عدد كبير منهم عن الاستشفاء ربطاً بانعدام قدرتهم المادية على تسديد الفروقات المالية بين فاتورة المستشفى الباهظة وتغطية الضمان المتدنية. أما مبالغ التعويضات التي يسحبها العمّال، سواء بعد صرفهم من العمل أو بسبب استقالتهم، فقد أصبحت غير ذات قيمة. عملياً، موارد الضمان انخفضت إلى مستويات متدنية جداً، وذاب ما لديه من مخزون مجمّع لتعويضات العمال.
ورغم الأهمية القصوى التي يفترض أن يوليها الضمان لهذه المسألة، إلّا أنّ مجلس إدارته وإدارته تعاملا مع الموضوع بشكل سطحي عشوائي واستنسابي من باب ما أُنزل عليهما من السلطتين السياسية والنقدية. فعلى مدى السنوات الخمسة الماضية طبّق الصندوق القرارات التي اعتبرت أن سعر الصرف بلغ 8 آلاف ليرة ثم 15 ألف ليرة، وأهمل قيام الحكومة ووزارة المال بتعديل تدريجي لسعر الدولار الجمركي. فالصندوق استمرّ حتى 31/12/2021 باحتساب الرواتب المدفوعة بالدولار للأجراء على سعر صرف يبلغ 1500 ليرة مقابل الدولار، ثم تقرّر في آب 2023 أن تُحتسب هذه الرواتب وفقاً للمادة 35 من الموازنة والقرارات المتممة لها والتي تفرض أن تُدفع الضرائب على الأجور بالقيمة الفعلية التي يحدّدها وزير المالية وحاكم مصرف لبنان. والقرارات حدّدت سعر الصرف للأجور المدفوعة نقداً بـ8 آلاف اعتباراً من 1/1/2022 حتى 14/112022 ثم بـ15 ألف ليرة اعتباراً من 15/11/2022. وتبيّن أنه في حال تسديد الرواتب بالشيكات المصرفية فإنها تحتسب ضمن شطرين: 8000 ليرة مقابل الدولار حتى 3000 دولار، و1507.5 عن باقي المبلغ.
هذه الفوضى تبنّاها مجلس إدارة الضمان وإدارته، واستمرّ الجدل حول سعر الصرف الذي يجب اعتماده للرواتب المدفوعة بالدولار. بين المجلس والإدارة برز جدال واضح، إذ عمل الجميع على إدخال تعقيدات لتطبيق قرار يتعلق بتحديد السعر الذي يجب اعتماده. وبرزت اتهامات تشير إلى أنه ليس من ضمن اختصاص المجلس تحديد سعر الصرف، وأنه يجب تطبيق قانون الموازنة والطلب من وزير المال تحديد سعر الصرف…
استمرّ «الجدل البيزنطي» حتى وصول اللجنة الفنية التي عيّنها وزير العمل مصطفى بيرم. وبحسب مصادر مطلعة، فإنه لولا ضغوط بيرم، وجهود اللجنة الفنية، لما صدر قرار واضح في هذه المسألة، بل بقيَ المجلس والإدارة يتقاذفان المسؤوليات ويركّزان في رميها على الآخر.
عندها أجرت اللجنة الفنية دراسة أشارت إلى أن تطبيق أسعار الصرف المتعدّدة أدّى إلى الآتي:
– باتت الأجور المدفوعة بالدولار الأميركي أقلّ من الحدّ الأدنى للأجور. فعلى سبيل المثال، الأجر المدفوع فعلياً بقيمة 600 دولار يحتسب بقيمة 9 ملايين ليرة (أي ما يساوي تقريباً 100 دولار بسعر السوق)، أي ما يساوي الحدّ الأدنى المعتمد للأجر منذ 26/4/2023، وبالتالي أصبحت كل الأجور التي تقلّ عن 600 دولار هي وفقاً لحسابات الصندوق أدنى من الحدّ الأدنى.
– خلل في المساواة والعدالة. فالمؤسسات التي تسدّد الاشتراكات على أجور مدفوعة بالليرة اللبنانية تدفع أكثر من تلك التي تسدّد الاشتراكات على أجور مدفوعة بالدولار، علماً أنّ الأولى تدفع أجور من الثانية. أما الأجير الذي يتقاضى أجره بالليرة، فقد أصبح يدفع اشتراكات أكثر من الأجير الذي يقبض أجره بالدولار أو بأي عملة أجنبية أخرى، علماً أنّ أجر الأول يكون فعلياً أقلّ من أجر الثاني.
– بما أن موارد الصندوق تتكون بصورة رئيسية من الاشتراكات المبنية على الأجور، فإن اعتماد سعر صرف نظري لتحديد الأجور المدفوعة بالدولار أدنى بكثير من السعر الفعلي، يعيق بشكل أساسي تمويل الصندوق. فضلاً عن أنّ الصندوق يدفع نفقاته بالدولار ويحصّل اشتراكاته على سعر أدنى بستة أضعاف.
إزاء هذا الرأي من اللجنة الفنية، راسل وزير العمل مصطفى بيرم، رئيس مجلس إدارة الصندوق وأبلغه بأن «الصلاحية القانونية في موضوع احتساب سعر الصرف يعود للسلطة التقريرية وهي مجلسكم الموقّر»، وطلب منهم «اتخاذ الموقف والقرار المناسبين تبعاً للمقتضيات القانونية والمصلحة العامة».
في إطار مراسلات بيرم ودراسة اللجنة الفنية، صدر القرار الذي يحاول البعض ربطه بالسياق الذي صدرت فيه موازنة 2024 ومحاولات الحاكم بالإنابة وسيم منصوري المتصلة برمي مسؤولية تثبيت سعر صرف في الموازنة يساوي سعر السوق، على عاتق مجلس النواب. فالواقع، هو أن هذا القرار اتُّخذ بعد نقاشات متواصلة امتدّت على أربعة أشهر، بينما كان يُفترض إقراره مع بداية الأزمة حتى لا يتم تهريب إيرادات مستحقة للضمان، وحتى لا تتراكم هذه الإيرادات على أصحاب العمل والعمال. أهمية التصحيح أنه يُخرج الضمان جزئياً من دائرة «الإنكار» بعد انهيار سعر الصرف وإفلاس الضمان. صحيح أن القرار أثار استياء أصحاب العمل الذين تنعّموا بتسديد اشتراكات متدنية على ظهر العمال، سواء بتدني تغطيتهم الصحية أو بتعويضات نهاية خدمتهم، ولكن القرار يمثّل فرصة للعودة إلى بعض من الانتظام. من أبرز أوجه هذا التهرّب هو أن وزارة العمل كانت تفرض على أصحاب العمل احتساب الرواتب المدفوعة بالدولار بقيم أعلى من تلك التي يحتسبها الضمان.
متوسط الأجور لا يعبّر عن الواقع
في تقريرها حول مشروع موازنة صندوق الضمان لعام 2024، انتقدت اللجنة الفنية تقدير متوسط الأجور بمبلغ 15 مليون ليرة، رغم صحة تحديده «حسابياً»، إلا أنّه لا يعبّر عن الواقع لثلاثة أسباب:
– إن الحدّ الأدنى الرسمي للأجور المحدد بـ 9 ملايين ليرة لم يعد له أيّ واقع فعلي إلّا في تصاريح ضريبة الدخل والضمان، ولا سيما أنه لا يؤمن نفقات المأكل لاستمرار العامل بوظيفته.
– يشكّل الحدّ الأقصى للكسب المحدّد بمبلغ 18 مليون ليرة لفرع ضمان المرض والأمومة ضعفَي الحدّ الأدنى الرسمي، ما يدفع بمتوسط الأجور الى ما دونه.
– إن اعتماد سعر صرف بـ 15 ألف ليرة لبنانية للأجور المسدّدة بالدولار، يؤدي الى متوسّط أجور منخفض، فضلاً عن انعدام العدالة بين فئات الخاضعين، لتصبح القاعدة: «من يتقاضى راتباً (بالدولار) أكبر، يدفع اشتراكات (بالليرة) أقل».
لذا، توصي اللجنة الفنية باعتماد سعر الصرف الفعلي لتقويم الأجور المدفوعة بالعملة الأجنبية عند احتساب الاشتراكات أو العمل على آلية لتقاضي هذه الاشتراكات بالعملة التي يدفع بها الأجر.