لم تكن الديون الحكوميّة، في أي مرحلة من مراحل التاريخ، شراً مطلقاً. بالدين العام والاقتراض، بدل الضرائب المُثيرة لنقمة الرعيّة، موّلت إنكلترا حربها ضد نابليون، منذ أواخر القرن الثامن عشر. وفي الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، وخلال الحقبة نفسها، كانت الرغبة في كسب ثقة الدائنين تدفع باتجاه تكريس الهويّة الماليّة المشتركة للولايات الأميركيّة، عند صياغة دستور الأمّة الوليدة. ومنذ ذلك الوقت، تعاظم دور أدوات الدين السيادي، إلى أنّ لعب الدور الحاسم في تمويل رزم الدعم الطارئ، في فترة تفشّي وباء كورونا. الدين العام، هو “أحد أعظم اختراعات الجنس البشري”، كما قال كينز.
لكنّ الاستدانة الحكوميّة تحمل، في الوقت نفسه، الكثير مما يُخشى منه. هي إغراء يمكن أن يُساء استعماله، إمّا للإفراط في الإنفاق، أو لتأجيل الإصلاحات الضريبيّة والماليّة المُرّة، أو تحميل الأجيال المقبلة عبء الحاضر. ديفيد هيوم، الذي رأى خطر هذه الإغراءات، ذهب مُبالغًا إلى حدّ القول: إمّا أن تدمّر الأمّة الائتمان العام، أو أن يدمّر الائتمان العام الأمّة. بعد مقولة هيوم، لم تدمّر بلاده إنكلترا الائتمان (الدين) العام، لكنّها أمضت قرنًا كاملاً تحت نير التقشّف، للتمكّن من التعامل مع ديون الحروب النابوليونيّة. نجت إنكلترا من الديون، لكنّها عانت طويلاً.
الديون في العالم الثري
النظر في أحوال أسواق الدين والسندات اليوم، يقودنا للتوجّس والقلق، أكثر مما يقودنا إلى التفاؤل بدور الائتمان العام. في عموم الدول المتقدمة، الأكثر ثراءً، باتت نسبة الديون الحكوميّة للناتج المحلّي تتجاوز الـ 110%، وهي نسبة ضخمة لم تشهدها هذه الدول إلا في حقبة الحروب النابوليونيّة التي أشرنا إليها (كما أشرنا إلى تبعاتها المخيفة لاحقًا). في الاتحاد الأوروبي وحده، تجاوزت 12 دولة، من أصل 28، الحد الأقصى للدين العام المسموح به في الاتحاد، والمقدّر عند مستوى 60%. في الولايات المتحدة، تخطّت النسبة 124%.
يمكن للمراقب أن يرى تبعات هذا الواقع في كل مكان. خمسة رؤساء وزراء تمّ تبديلهم في فرنسا خلال سنتين، وسط فشل ماكرون في التوفيق ما بين حاجات التقشّف وضبط النفقات، وتطلّعات الشارع وسائر القوى السياسيّة. مشكلة الموازنة والإجراءات الماليّة، بما فيها تمديد سن التقاعد، كانت جزءًا أساسيًا من المشكلة. وهناك، باتت نسبة العجز في الميزانيّة، من الناتج المحلّي، تتخطّى 5.8%، أي ما يوازي ضعف الحد الأقصى المنصوص عنه في معايير الاتحاد الأوروبي، والمُحدد عند 3%.
في أميركا، باتت الأمور مقلقة أيضاً: خلال العامين الماضيين، تجاوزت مدفوعات الفوائد كلفة الإنفاق على الدفاع. وخسرت الولايات المتحدة تصنيفها الائتماني الممتاز. وبينما ارتفعت نسبة العجز للناتج إلى حدود 6% العام الماضي، جاء قانون ترامب للضرائب والنفقات ليزيد من الأعباء المتوقعة في ميزانيّة الحكومة الفيدراليّة. وفي الوقت الراهن، يربط كثيرون ما بين ارتفاع أسعار الذهب، والقلق من مآلات الأمور في واشنطن، وتداعيات ذلك على مكانة الدولار في الأسواق الدوليّة.
في بريطانيا، تجاوزت نسبة الدين للناتج خلال العامين الماضين نسبة الـ 100%، لأوّل مرة منذ الخمسينات. وأصبح بند خدمة الدين البند الثاني في الميزانيّة العامّة من حيث الحجم، بعد الصحّة. ومنذ العام 2022، ظلّت بريطانيا أسيرة ضعف الثقة بسنداتها، بعد خطة خفض الضرائب المثيرة للجدل التي أعدتها حكومة ليز تراس. مشكلة الماليّة العامّة، باتت المحور الأساسي لانقسام المحافظين والعمّال: بين من يدعو للتقشّف وضبط النفقات وتحجيم دور القطاع العام، في مقابل مطالبين بتوسيع الاستثمار العام لتحريك العجلة الاقتصاديّة.
أعباء مقبلة
أزمة الديون العامّة وعجوزات الميزانيّات الحكوميّة، في الدول المتقدمة، لن تقف عند هذا الحدود. ثمّة أربع عوامل تدفع للاعتقاد بأنّ حكومات الدول المتقدمة ستتحمّل المزيد من الأعباء، خلال السنوات المقبلة:
1- زيادة النفقات الدفاعيّة، وخصوصًا بعد القرارات التي اتخذها حلف الناتو، والتي قضت برفع نسبة الإنفاق على التسلّح إلى 5% من الناتج المحلّي. وستدفع بالاتجاه نفسه العقيدة التي تتبناها الإدارة الأميركيّة الحاليّة في واشنطن، والتي تدعو شركاءها، بما في ذلك الدول الآسيويّة، لتحمّل نصيبهم من الأعباء العسكريّة.
2- التحوّلات المستمرّة في الهرم الديموغرافي في الدول المتقدمة، والتي تزيد من أعداد المتقدمين في السنّ، مقارنة بالشباب، وهو ما يزيد من الفاتورة الصحيّة الإجماليّة.
3- تزايد فاتورة خدمة الدين العام، مع تزايد كتلة الديون الحكوميّة، ومع ترقّب المستثمرين عائداً أعلى على السندات بفعل المخاطر المتزايدة.
4- الأعباء الناتجة عن تغيّر المناخ، وخصوصًا لجهة تداعيات هذه الظاهرة على القطاع الزراعي.
في النتيجة، يتوقّع صندوق النقد أن تزيد النفقات الحكوميّة في دول العالم المتقدّمة بنسبة 6% من الناتج المحلّي، جرّاء هذه العوامل الأربعة وحدها، وهو ما يزيد من المخاوف المرتبطة بمسقبل مديونيّات هذه الدول وعجوزاتها.
التضخّم لمعالجة الدين
في واقع الأمر، ليس ثمّة ما يدعو إلى التفاؤل بإمكان خفض حجم المديونيّات العامّة في الدول الثريّة على المدى المنظور. فحكومات هذه الدول لا تملك حاليًا الإرادة السياسيّة لاتخاذ القرارات الماليّة الموجعة، ولا تملك ترف النمو الاقتصادي الكبير القادر على زيادة الإيرادات.
ثمّة رهان وحيد يمكن أن يعالج المسألة على المدى البعيد: التضخّم، القادر على خفض القيمة الفعليّة للمديونيّات الحكوميّة، بفعل تراجع القيمة الشرائيّة لعملات هذه الدول، بما في ذلك الدولار. والحديث عن إضعاف قيمة العملات، لم يعد اليوم كلامًا نظريًا، بل بات له مُريدون في مراكز القرار. وحديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن فوائد “الدولار الضعيف”، وحروبه ضد الاحتياطي الفيدرالي، مجرّد دليل على ذلك.
الضغط على المصارف المركزيّة، لخفض الفوائد، سيسمح أولاً بخفض كلفة خدمة الديون الحكوميّة. لكنه على المدى الأبعد، سيعني اعتماد سياسات نقديّة أقل تشددًا، ما سيفتح الباب لارتفاع معدلات التضخّم. وعندها، يمكن للديون الحكوميّة أن تخسر قيمتها الفعليّة، مع خسارة النقد لقيمته الشرائيّة.
لقد عرف العالم مراحل سابقة، تمكنت فيها الدول المتقدمة من التعامل مع ديونها الحكوميّة بهذه الطريقة، ولو من دون نيّة مسبقة. ومنها على سبيل المثال عقد الركود التضخّمي خلال فترة السبعينات، والتي وصل خلالها معدّل التضخّم عام 1979 إلى 20% في بريطانيا، و13% في الولايات المتحدة الأميركيّة. لم تنتهِ هذه الحقبة إلا مع صعود النيوليبراليّة مع ريغان وتاتشر، وتحوّل تركيز المصارف المركزيّة إلى استهداف التضخّم كأولويّة قصوى، بعدما ظهرت تداعيات فقدان السيطرة على الأسعار.
بطبيعة الحال، للتضخّم تداعياته السيئة. فهو يعني فقدان القدرة الشرائيّة للأجور، وإعادة توزيع الثروة بناءً على مقاييس غير عادلة. لكنّه وبخلاف سياسات التصحيح الضريبي والمالي، لا يحتاج إلى قراراتٍ سياسيّة غير شعبيّة، ولا يحتاج إلى قيادات تحمل عبء خطط الإصلاح الاقتصادي. التضخّم صنيعة سياسات نقديّة لا تعطي الاهتمام الكافي لمشكلة ارتفاع الأسعار. ولهذا السبب، قد تنجرّ اقتصادات العالم المتقدّم إلى هذا النوع من الحلول لأزمة الديون العامّة، وإن لم تعلن ذلك. لتفعل ذلك، ستحتاج أولاً إلى ضرب استقلاليّة مصارفها المركزيّة. وهذا ما يحدث اليوم، بدايةً من واشنطن.



