بمعزل عن طبيعة حادثة رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر، فإن الساعات التالية لها شهدت تحرّكات سياسية متسارعة. فقد لاحت الفرصة، أخيراً، أمام القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ لـ”استعادة مقعد مسيحي مخطوف” من قبَل حركة أمل منذ سنوات طويلة.
بوادر هذه الفرصة لا تستند إلى قدرة التيار والقوات على إعادة رسم خريطة تكوين الاتحاد الذي تسيطر عليه حركة أمل بشكل شبه مطلق، مع قدرتها على تجيير أصوات أكثر من 40 اتحاداً في مواجهة 10 اتحادات يسيطر عليها القواتي جورج العلم، بل مبنية على المبالغة في التركيز على الجانب “الديني” لحادثة الأسمر. والهدف من مبالغة كهذه هو إحراج الجهة السياسية التي أتت بالأسمر، أي الرئيس نبيه برّي، وإغراقه باللوم على تسميته رئيساً للاتحاد، بهدف المشاركة في تسمية الرئيس المقبل للاتحاد العمالي العام.
بالفعل هذا ما حصل في اليومين الماضيين. فما حصل هو أن عرّاب بشارة الأسمر، أي عضو هيئة مكتب الاتحاد جورج العلم، كان أول المطالبين باستقالته بعدما أعلن تعليق عضوية اتحاداته العشرة، مطالباً “بتصحيح الخلل المزمن”! ثم جاء بيان مصلحة النقابات في القوات اللبنانية التي طالبت باستقالة كل الذين كانوا إلى جانب الأسمر على المنصة خلال إلقائه “نكتته السمجة”، سواء شاركوا في الاستماع أو بردة الفعل وهم: أكرم عربي، حسن فقيه، أنطون أنطون، بطرس سعادة وعلي الموسوي “من استهزاء ورضا عما سمعوه”.
تحت هذا الغطاء من التفاهات الشعبوية، كانت القوات تمرّر رسائلها. بحسب مصادر نقابية، لم تتوقف الاتصالات بين رئيس مصلحة النقابات في القوات اللبنانية إيلي جعجع، ورئيس المكتب العمالي لحركة أمل علي حمدان. جعجع طالب بأن تجري الدعوة سريعاً لانتخاب رئيس للاتحاد ضمن “مواصفات” محدّدة. لكن حمدان، وبتوجيه من برّي، واجه الأمر ببرود يهدف إلى تمرير المرحلة واستيعاب النقمة، لا السير نحو ما يريده الآخرون، وخصوصاً أن بري طلب من أعوانه البحث، بهدوء، عن شخصية جديدة يمكن تسميتها لرئاسة الاتحاد العمالي العام لأنه لا يمكن تغطية “حماقة الاسمر” بأي شكل من الأشكال.
أما موقف التيار الوطني الحرّ، فقد عبّر عنه النائب زياد أسود على “تويتر”، مشيراً إلى “الاتحاد العمالي العام مؤسّسة فاسدة وممسوكة من ميليشيا قضاياها ساقطة ومبتذلة. إلغاء هذه المؤسسة حتمي ويريح الناس من مسرحيات البلطجة الأخلاقية والتشبيح والابتزاز الاجتماعي وينهي حقبة تولى خلالها الرعاع مراكز لم يحسنوا تمثيلها وسلّموها إلى من أساء إلى دور الموارنة فيها”.
موقفا القوات والتيار واضحان. لا يريدان إلا المشاركة في السيطرة على الاتحاد بعد سقوط بشارة الأسمر الذي كان يمثّل نقاط تقاطع كثيرة بينهما وبين حركة أمل. ففي آذار 2017 انتخب الأسمر رئيساً للاتحاد العمالي العام بتسوية قضت باستبعاد ممثّل المردة في الاتحاد أنطون أنطون. هذه التسوية كانت مقبولة من التيار الوطني الحرّ الذي يرفض إمساك المردة بهذا الموقع، فيما كانت لحركة أمل حاجة للتحالف مع القوات في وجه التيار الوطني الحرّ. يومها تبنّى جورج العلم، المحسوب على القوات، لعب دورا محوريا في انتزاع موافقة القوات على بشارة الأسمر حتى سُمّي عرابه. وهو الذي دفع الأسمر لزيارة سمير جعجع مرتين. هو نفسه الذي أعلن بعد دقائق على انتشار فيديو نكتة الأسمر تعليق عضوية 10 اتحادات يسيطر عليها من الاتحاد العمالي العام مطالباً بـ”استقالة المفترين وتصحيح الخلل المزمن”. العلم وجد فرصة في امكان الاتفاق على اسمه لرئاسة الاتحاد، لذلك طالب باستقالة الأعضاء الخمسة الذين كانوا إلى جانب الأسمر على المنصة. لكن المفارقة أن العلم يتحدّث عن خلل مزمن في الاتحاد رغم أنه انتُخب عضواً في هيئة المكتب بتسوية مع حركة أمل، ولديه تسوية أخرى معهم في مجلس إدارة الضمان، وفي إدارة الضمان حيث يقوم بتخليص الكثير من المعاملات.
عرّاب الأسمر، جورج العلم، أول من يتخلّى عنه
وكان الأسمر زائراً اسبوعياً لبكركي. وهو لعب دوراً بين اتحاد المدارس الكاثوليكية والأساتذة الذين طالبوا بست درجات وتمكّن من استصدار مذكرة تعفي المدارس التي لم تلتزم بتسديد الدرجات من اشتراكات الضمان الالزامية… رغم كل ذلك، أغلقت بكركي باب التوبة أمام الأسمر.
هكذا، بات اكيداً أن الأسمر صار خارج الاتحاد. طريقة خروجه أو إخراجه لن تكون مسألة شائكة بعد تبلّغ المعنيين من الرئيس بري ضرورة استقالته أو إقالته. ومن المتوقع أن تعقد اليوم هيئة مكتب الاتحاد جلسة طارئة لمناقشة ما آلت إليه الأمور واتخاذ قرار بشأن الطلب من الاسمر الاستقالة، أو إصدار توصية للمجلس التنفيذي بإقالته.
خروج الأسمر يعد مربكاً لحركة أمل بوصفها لجهة السياسية التي تسيطر على الاتحاد. فمن جهة بدأت تتعرض لضغوط القوى المسيحية، ومن جهة ثانية سيكون لديها اتحاد فارغ الرأس في ذروة الحاجة إلى تنفيس الشارع من تداعيات مشروع موازنة 2019 والضرائب التي اقترحها أو شارك فيها أو وافق عليها وزير المال علي حسن خليل. منذ بضعة أيام التقى خليل والأسمر في عين التينة. الأسمر حضر بعدما استشاط عليه غضباً وزير المال بسبب الإضرابات، إلا أنه فوجئ بأن برّي شجّعه على الاستمرار في التحرّكات.
في الواقع، مقرّبون من الرئيس برّي أشاروا إلى أن فشل القوى المسيحية في استعادة مقعد رئيس الاتحاد، قد يدفعها إلى فرط الاتحاد العمالي العام، بوجود وزير العمل كميل بوسليمان. فما هي الخيارات الأخرى؟ استمرار نائب رئيس الاتحاد بتسيير أعمال الاتحاد إلى حين تنفيذ الانتخابات النصفية بعد شهرين والتي يسقط بموجبها ستة أعضاء بالقرعة وينتخب ستة بدلاً منهم، دعوة المجلس التنفيذي إلى انتخاب بديل من الأسمر وهي عملية تتحكّم وزارة العمل بإدارتها، أو انتخاب واحد من الأعضاء المسيحية الثلاثة في هيئة المكتب (وهو ليس خيار بري): جورج العلم، شربل صالح، أنطوان أنطون (إذا تراجع عن تعليق عضويته اعتراضاً على نكتة الأسمر).