انتهت جولة وفد وزارة الخزنة الأميركيّة، بعد سلسلة من اللقاءات التي تركّز معظمها على عناوين ماليّة ومصرفيّة، تُعنى بالعمليّات غير المشروعة وتبييض الأموال على الساحة اللبنانيّة. أبرز التسريبات التي ركّز عليها الإعلام والاهتمام الشعبي في لبنان، تناولت مسألة قنوات تمويل حزب الله وحماس، وكيفيّة اتخاذ “إجراءات استباقيّة” تمنع استعمال النظام المالي الرسمي في هذا النوع من العمليّات.
وإذا كان التركيز على الجانب السياسي من اللقاءات مفهومًا، بحكم الأوضاع الأمنيّة والعسكريّة المشتعلة في المنطقة، تخطّت معظم المتابعات جانبًا تقنيًا مهمًا من تعليقات الوفد الأميركي، وهو ذاك الذي يُعنى بوضعيّة المصارف اللبنانيّة ومسارات معالجة أزمتها.
نظام “الفريش” ومصارف “الزومبي” وتأخير إعادة الهيكلة
بخلاف الانطباعات السائدة حول الزيارة، لم تقتصر مداولات الوفد على البُعد السياسي العام، بل تضمّنت مراجعة تقنيّة دقيقة لوضعيّة المصارف الراهنة.
فالحديث عن تفشّي اقتصاد النقد الورقي، الذي يهيمن على 46% من عمليّات السوق، والذي يفتح باب تبييض الأموال على مصراعيه، لم يأتِ إلا في إطار مراجعة نتائج “العرقلة المتعمّدة لعمليّة إعادة هيكلة المصارف“، وهو ما يطرح أسئلة جديّة حول الأهداف الجديّة التي تقف خلف إبقاء الوضع على ما هو عليه.
بصورة أوضح، كانت الرسالة الأميركيّة تتركّز على التحذير من مآلات إبقاء مصارف “الزومبي” على حالتها الراهنة، ومن نتائج ذلك على مستوى علاقة لبنان مع النظام المالي العالمي. ببساطة، مصارف زومبي تساوي اقتصاد نقد ورقي، تساوي اقتصاد غير شرعي مفعم بعمليّات تبييض الأموال، أي اقتصاد متجه نحو العزلة الماليّة المحتّمة.
الوفد الأميركي كان عارفًا بجميع الخطوات التي تم اتخاذها على مستوى مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، لاستيعاب تداولات السوق الماليّة، والحد من اقتصاد النقد الورقي. ومن هذه الإجراءات مثلًا تلك المخصّصة لاستحداث نظام لتداول الفريش الدولار بين المصارف، أو داخل كل مصرف لبنان.
غير أنّ الوفد كان يرى أن نموذج “الفريش دولار” بحد ذاته يمثّل بيئة مؤاتية للأنشطة غير الشرعيّة، لكون طبيعته تشجّع على عمليّات السحب والتحويل السريعة التي تلقّي الأموال “الطازجة” من خارج النظام المالي. أي نظام للدولارات الطازجة، هو مكمّل مثالي لجنّة تبييض الأموال لا العكس. وما يعتبره مصرف لبنان “معالجات”، ليس سوى أجزاء مكمّلة للوضع غير المرغوب القائم حاليًا.
بهذا الشكل، وفضلًا عن تشجيعها اقتصاد النقدي الورقي، تصبح مصارف “الزومبي” نفسها جنّةً لتبييض الأموال وغسل الأموال غير المشروعة. لا بل إن آليّات عملها الراهنة، التي تقوم على تلقي الدولارات النقديّة الساخنة وتحويلها فقط، أو العكس، لا تسمح بتتبّع مصدر أي تحويلات على نحوٍ كفوء ومجدي، كما يفترض أن يكون الحال بحسب معايير الامتثال العالميّة. وهذا تحديدًا ما يعيد وفد وزارة الخزنة الأميركيّة إلى النقطة الأساس، أي إلى تداعيات تأخير إعادة هيكلة المصارف، وما ينتج عن ذلك على مستوى تشجيع عمليّات تبييض الأموال.
لا إعادة هيكلة تعني لا بنوك
النتيجة النهائيّة لتأخير إعادة الهيكلة، ستكون كما ذكر الوفد في بعض اجتماعاته: عدم وجود بنوك، أي عدم وجود نظام مالي حقيقي قادر على القيام بأدواره البديهيّة. وهذا لن يرتبط فقط بفقدان المصارف لقدرتها على التسليف وتلقي الودائع، بل أيضًا بفقدانها القدرة على التواصل مع النظام المالي الدولي، أي على لعب دورها في مجال تنظيم وسائل الدفع وتمويل التجارة. فتزايد مخاطر تبييض الأموال يعني بطبيعة الحال تزايد مخاطر العزلة، سواء جرّاء العقوبات الخارجيّة، أو حتّى بفعل تملّص المصارف المراسلة الأجنبيّة من التعامل مع النظام المالي اللبناني “الموبوء”.
الصورة القاتمة التي تعكسها حصيلة الاجتماعات هي التالي: إذا لم يعالج لبنان أزمته المصرفيّة سريعًا، وبأدوات إعادة الهيكلة كما أشار الوفد الأميركي، فالبلاد متجهة إلى حالة من العزلة الماليّة، أو إلى ما يشبه حالة البلدان البائسة التي تسود فيها الاقتصادات المغلقة، المليئة بالعفن والأنشطة غير المشروعة.
الملفت هنا، هو أن كثير من رافضي إعادة الهيكلة في لبنان، يعرقلون هذه الحلول بحجّة الحفاظ على القطاع المصرفي و”منع وضع اليد عليه”. قد يكون مفيدًا أن يشير هؤلاء إلى نوعيّة النظام المصرفي “الحر” (؟) الذي سينتج عن وضع مثل الوضع الراهن!
حساسيّة توقيت الزيارة والرسائل
لا يمكن التغاضي عن حساسيّة توقيت زيارة الوفد الأميركي، سواء على المستوى السياسي، أو من جهة تطوّرات الملف المالي. فرغم أهميّة التوقيت السياسي، الذي يتزامن مع المفاوضات المرتبطة بالتهدئة في الجنوب، من المهم أيضًا الإشارة إلى تزامن الزيارة مع تطورات مهمّة على مستوى فرملة مسار العمل على قانون إعادة الهيكلة، بعد أن سُحبت مسودّة مشروع القانون المطروح عن طاولة مجلس الوزراء.
وكان من الواضح يومها أن سحب المشروع ارتبط بمصالح سياسيّة وماليّة ومصرفيّة، لم يناسبها الدخول في عمليّة تصنيف الودائع بحسب مشروعيّتها، أو بحسب درجة اتصالها بأرباح المراحل السابقة. ومن هذا الزاوية، يكتسب حديث الوفد الأميركي عن أهميّة الشروع بإعادة الهيكلة رمزيّة خاصّة، لا ينبغي تجاهلها. بل يصبح هذا الحديث رسالة لا يفترض أن يخطئها أحد.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أن من يحذّر من “عدم وجود بنوك” في حال استمرار المراوحة وعدم إجراء “إعادة الهيكلة”، ليس مجرّد محلّل أو مراقب، بل وفد وزارة الخزنة التي تملك بيدها مفاتيح اتصال أي دولة بالنظام المدولر العالمي، أي بالنظام المالي الدولي الذي نعرفه. وهي الوزارة التي تحمل بيدها القلم الذي يحدّد أبعاد تبييض الأموال ومعايير مكافحتها، وهي التي تحدّد معايير تصنيف “الأنظمة الماليّة المارقة” غير الملتزمة. بصورة أوضح: عبارات من هذا النوع يفترض أن تدفع اللبنانيين إلى البحث في المستقبل الذي ينتظرهم، وإلى السؤال عن طبيعة المصالح التي تدفعهم باتجاه هذا المستقبل!