لا شيء يعلو فوق صوت الغلاء الفاحش والذي صار لا يُحتمل، وفوق صوت الفقر الذي يتوسّع ويتمدّد أكثر فأكثر، بحيث صار يطال المزيد من شرائح المُجتمع اللبناني… في حين أنّ الحكومة التي كان يُفترض أن تضع خطّة طريق لوقف الإنهيار بأسرع وقت ممكن، تعيش في حالة إنكار كامل، ويتحدّث رئيسها نجيب ميقاتي عن خطط وعن مشاريع مُستقبليّة بمنطق مُنفصل عن الواقع(1)، ذكّر اللبنانيّين بمنطق رئيس الحكومة الأسبق حسّان دياب وإنجازات بنسبة 97% في المئة، في إنعكاسلعالم خيالي يعيشه المسؤولون في لبنان، بحسب تعبير مبعوث الأمم المتحدة “أوليفييه دي شوتر”(2)!.
قلّة من اللبنانيّين تهتمّ بما يُحكى عن تغييرات في الإقليم، وفي حين يتحدّث “محور المُمانعة” عن إنتصارات شاملة ستفرض عودة الدول العربيّة إلى الإعتراف بالنظام السُوري، وستفرض وقف الحرب في اليمن من دون تحقيق مطالب السُعوديّة، وستفرض وقائع لا يُمكن تغييرها في لبنان والعراق وغيرهما، وستفرض عودة الولايات المتحدة الأميركيّة والدول الغربيّة إلى الإعتراف بالإتفاق النووي مع إيران من دون أيّ تعديلات، إلخ. يتحدّث خُصوم المحور المَذكور، عن تغييرات ستظهر إلى العلن في المُستقبل القريب، تُثبت بدء تقلّص النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، حيث أنّ عودة سوريا إلى الحضن العربي مَشروطة بإبتعادها مُجدّدًا عن النفوذ الفارسي، ووقف الحرب في اليمن لن يتمّ ما لم يقتنع “الحوثيّون” بالحكومة اليمنيّة وما لم يُوقفوا إطلاق صواريخهم ومسيّراتهم المُتفجّرة في إتجاه الأراضي السُعوديّة، وأنّ إعادة إحياء “الإتفاق النووي” ستكون مُترافقة مع وقف تدخّلات إيران في شؤون دول المنطقةوزعزعة إستقرارها، إلخ.
قلّة من اللبنانيّين تهتمّ بما يُحكى عن تغييرات مُرتقبة في لبنان، وفي حين يتحدّث “محور المُمانعة” عن تثبيت الإنتصار المَيداني في الإقليم، عبر إنتصارات سياسيّة في الإنتخابات، ومنها الإستحقاقات الإنتخابيّة المُرتقبة في لبنان، ومن خلال رفض العودة بلبنان إلى سياسات الإذعان والخُضوع، يُؤكّد خُصوم هذا المحور أنّ “سيناريو” الإنتخابات العراقيّة الأخيرةوالتي قلّصت نفوذ مُؤيّدي إيران لصالح القوى السياسيّة العراقيّة الأخرى، سيتكرّر في لبنان حيث ستفرض الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، واقعًا مختلفًا يُحوّل الأغلبيّة العدديّة الحاليّة إلى أقليّة مُجدّدًا، وذلك لصالح تنامي نفوذ القوى السياسيّة الأخرى وبعض القوى المُستقلّة، وأن “حزب الله” سيكون عاجزًا عن فرض مشيئته وسياسته ومشاريعه على اللبنانيّين كما يحصل اليوم، بفعل سيطرته الحاليّة على الأغلبيّة في المجلس النيابي وفي الحكومة وحتى على الكثير من مفاصل الدَولة.
قلّة من اللبنانيّين تُنصِتُ بتفاؤل إلى الوعود التي عادت لتُطلق من جديد، تارة عن “إستقلال القضاء” وطورًا عن “إنتماء لبنان العربي”، وتارة عن مساعدات فوريّة وبطاقات تمويليّة وعن إعادة النظر بالأجور، وطورًا عن صندوق إعادة بناء مؤسّسات الأعمال وعن خطة إصلاح الكهرباء، وعن مشاريع للنقل العام وشبكة أمان إجتماعيّة ومشاريع للقطاعين الصحّي والتربوي، إلخ.
فما يهمّ اللبناني اليوم ليس بالتأكيد الوعود الوهميّة وحتى الإنتخابيّة الخادعة، ولا الخُطط البرّاقة التي لا تُنفّذ على الأرض، ولا المشاريع الورقيّة التي أثبتت التجارب أنّها غير قابلة للصرف، ولا الكلام المَعسول أو الحلول الرماديّة للمشاكل وفق الأسلوب اللبناني المَعهود! ما يهمّ اللبناني اليوم، هو ألاّ يكون عاطلاً عن العمل أو يعمل بأجر زهيد لا يكفيه لتعبئة خزّان وقود سيارته للذهاب إلى مكان عمله! ما يهمّ اللبناني اليوم، هو ألّا يكون عاجزًا عن دفع القسط المدرسي أو الجامعي أو حتىفاتورة الإستشفاء لأفراد عائلته! ما يهمّ اللبناني اليوم، ألاّ يبقى تحت رحمة مافيات أصحاب مُولّدات الطاقة ومافيات الأدوية والأغذيّة والمتاجر الكُبرى! ما يهمّ اللبناني اليوم، ألاّ يبقى أسيرًا لمافيات اللعب بسعر الصرف، وعرضة لإرتفاع مُستمرّ ومَفتوح للدولار، مع ما يُرافق هذا الأمر من غلاءٍ مُستشرٍ على مُختلف الصُعد ولكلّ الخدمات والسلع! ما يهمّ اللبناني اليوم، ألّا يقف عاجزًا عن شراء أبسط مُستلزمات قُوته اليومي، والمأكل والمشرب والملبس له ولعائلته، بسبب إنعدام القُدرة الشرائيّة للرواتب بشكل كامل، ناهيك عن سرقة الودائع في المصارف، وعن الفشل في ضبط الأسعار!ما يهمّ اللبناني اليوم، هو أن يعود مُواطنًا مُحترمًا له مكانته وحُقوقه في دولة تُواكب العصر، بدلاً من أن يعيش حياة الذلّ في بلد إنهار كل شيء فيه، من شبكات كهرباء وماء وطرقات وبنى تحتيّة وخدمات عامة، واللائحة لا تنتهي… وصار لقمة سائغة بيد المافيات والعصابات والكثير من المسؤولين الذين يفتقرون إلى الضمير والأخلاق.
والأكيد أنّ الغلاء يستفحل والفقر يتوسّع… والحُكومة في “كوما”، وفي حالة موت سريريّ، وفي إنفصال تام عن الواقع! وبالتالي، من كان عاجزًا من بين المسؤولين عن إيجاد الحلول أو عن قول الحقّ وعن الدلالة على المُعرقل وعن المُسبّب، عليه أن يُخلي الساحة لمن هو قادر على ذلك. وإذا كانت الظُروف الداخليّة ومُعطيات وتوازنات الأمر الواقع، تحول دون حُصول هذا الأمر، فالأجدى أن تكون الإستقالة هي الخيار، لأنّ الفراغ في سدّة المسؤوليّة أفضل بكثير من وُجود مسؤولين عاجزين عن القيام بخُطوة واحدةإلى الأمام، ولا يتقنون سوى إطلاق الوُعود، في الوقت الذي تئنّ فيه أغلبيّة واسعة من شعبهم تحت خط الفقر والعوز.
(1) قال مثلاُ في خطابات نهاية الأسبوع الماضي: “معًا سنعيد لبنان أجمل مِمّا كان…”، و”أولويّات عملنا ترتكز على 8 أعمدة، هي: الأمن، الملف المالي والإقتصادي، الملف الإجتماعي، الخدمات والبنى التحتيّة…”.
(2) قال في مُقابلة إنّ: “مسؤولي الحكومة اللبنانيّة ليس لديهم أي شعور بضرورة التحرّك العاجل أو العزم اللازم لتحمّل مسؤوليّاتهم إزاء أزمة إفتصاديّة أدت إلى إفقار شرس للمُواطنين…يعيشون في عالم خيالي… وهذا لا يُبشّر بالخير بالنسبة إلى مُستقبل البلاد”.