بدل عقد جلسة نيابية للبحث في نتائج تقرير التدقيق الجنائي في مصرف لبنان و«مآثر» الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، قرّر رئيس مجلس النواب نبيه بري وضع مشروع قانون الـ«كابيتال كونترول» على جدول أعمال جلسة اليوم وكأنّ شيئاً لم يكن، ولو أن المرجّح عدم عقدها بعد إعلان التيار الوطني الحر مقاطعتها «لأن جدول الأعمال لا تنطبق عليه صفة الضرورة القصوى».
ومع مقاطعة التيار والقوات والكتائب ونواب «التغيير»، لن يتوفّر النصاب القانوني للانعقاد. فيما السؤال المطروح: لماذا «نبش» بري مشروع القانون بعد مرور 7 أشهر على إقراره في اللجان المشتركة والإحجام عن وضعه على جدول أعمال أي جلسة تشريعية مُذَّاك؟ فالمشروع الذي يتأرجح منذ 3 سنوات في اللجان المشتركة وتبدّلت صيغته مراراً تحت وطأة ضغوط سلامة والمصرفيين، وبفعل رفض بري المطلق له، أصبح فجأة مطلباً لرئيس المجلس النيابي. علماً أنه تم تأجيل النقاش فيه في اللجان مراراً نتيجة مطالبة البعض بإقراره ضمن سلة قوانين أبرزها إعادة هيكلة المصارف وإعادة التوازن المالي وإلا سيكون الأمر بمثابة انتهاج السياسة ذاتها والاستمرار في تحميل الخسائر للمودعين.
لكن، وللمفارقة، فقد حرص المشرّعون في النسخة الأخيرة على إضافة عبارة «وحماية حقوق المودعين» إلى عنوان مشروع القانون ليصبح كالتالي: «وضع ضوابط استثنائية ومؤقّتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية وحماية حقوق المودعين». وأُضيفت مادة أولى تتحدّث عن هذه الحقوق، وفيها «أن حقوق المودعين المحفوظة والمكرّسة في الدستور والقانون لا يجوز المساس بها إطلاقاً، وأن الضوابط الاستثنائية والمؤقّتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية التي تتضمّنها مواد هذا القانون ونصوص أي قانون آخر لا تشكل مساساً بحقوق المودعين وأصول ودائعهم». ولكن، ما إن تنتهي هذه المادة حتى تكرّ سبحة المواد المتعارضة شكلاً ومضموناً مع أي حق يفترض أن يتمتّع به المودع، أكان من ناحية التمييز بين الودائع أو قيمة السحوبات النقدية أو الدعاوى المقامة ضد المصارف. وتأتي المادة 12 منه لتمنح مصرف لبنان والمصارف عفواً عاماً مالياً عن كل ما حصل قبل 17 تشرين 2019 وبعده، من تقييد حركة الرساميل والتوقف عن الدفع والهيركات، وتمنع محاسبتهم عبر «تعليق تنفيذ جميع الأحكام والقرارات القابلة للتنفيذ في لبنان والخارج التي صدرت قبل صدور هذا القانون والتي لم تُنفّذ بعد، وتلك التي ستصدر عبد دخوله حيّز التنفيذ والمتعلقة بمطالبة أو بتدابير مخالفة لأحكامه». هكذا، تُبرّأ ذمة المصارف تجاه الدعاوى المرفوعة ضدها في الداخل والخارج وتُطوى صفحة الجرائم المالية المرتكبة.
مودع قديم ومودع «فريش»
ولا يمت الكابيتال كونترول المطروح بصلة إلى الهدف الأساسي وراء إقرار قانون مماثل، أي إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات وحماية ما تبقّى من دولارات، طالما أن أموال الاستيراد والأموال الجديدة أو الدولارات الفريش المودعة حديثاً لا تخضع للقيود، بل تُطبق القيود فقط على أموال المودعين «القدامى» التي لم تعد موجودة أصلاً. فالمادة الرابعة واضحة لناحية «حظر أي عملية نقل أموال خارجية ومدفوعات الحساب الجاري والتحاويل بأي عملة أجنبية كانت ومن أي حساب مصرفي أو حساب لدى وسيط معتمد بما في ذلك حسابات الودائع الائتمانية في لبنان». لكن، تُستثنى من ذلك «الإيداعات والتحاويل الجديدة حتى لو طلب العميل تحويلها بالكامل أو جزئياً إلى أي عملة أجنبية أو طلب تحويلها من المصرف إلى أي مصرف في لبنان أو الخارج»، و«التحاويل والمدفوعات لصالح الدولة اللبنانية وفقاً للموازنة العامة ومدفوعات مصرف لبنان المستندة إلى قانون النقد والتسليف». وتبلغ الاستنسابية مداها في النقطة الثالثة من المادة عينها التي تسمح بتحويل نفقات الطبابة والاستشفاء لحالات مرضية يتعذّر إجراؤها في لبنان في حين يموت المريض الذي يعالج في لبنان على أبواب المستشفيات من دون أن يحق له سحب ولو دولار واحد من أمواله، والنقطة الرابعة التي تمنع الطالب الذي يدرس في لبنان من الحصول على الدولارات بينما يُستثنى الطلاب اللبنانيون في الخارج المسجّلون قبل 31/12/2020. مقابل كل ما سبق، سيُمنح المودع 800 دولار كحد أدنى من السحوبات الشهرية بحسب ما جاء في المادة السادسة. ووضعت المادة القرار الرئيسي بيد اللجنة التي «تقترح حجم السحوبات الشهرية للمودعين سواء نقداً أو بواسطة البطاقات المصرفية فور صدور هذا القانون على أن لا يقل الحدّ الأدنى عن 800 دولار ويعود لها تعديل سقف القيمة تباعاً وفقاً لتطور الأوضاع المالية والنقدية والمعيشية». كما أعطيت اللجنة صلاحية إخضاع الحسابات لضوابط وقيود لم يتم تحديدها وفق اقتراح خاص، على أن تسري أحكام هذا القانون لمدة سنة قابلة للتجديد في مجلس النواب بناءً على اقتراح اللجنة. وهو ما يسمح بفتح ثغرة للتحايل على المودع بشكل إضافي بعد إقرار القانون.
القرار بيد لجنة «الانهيار»
لكن ممن تتألف اللجنة؟ تضم اللجنة كل من تسبّبوا بالانهيار وجمّدوا أموال المودعين وبدّدوها ومنعوهم من التصرّف بها وهم: وزير المال وحاكم مصرف لبنان وأحد نوابه وقاضٍ من الدرجة 18 وما فوق و4 خبراء يتم اختيارهم من بين عدة أسماء تطرحها نقابة المحامين، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، نقابتا الصيادلة والأطباء ونقابة المحاسبين المحلّفين. وحتى تكتمل الجوقة، فإنّ تعيين هؤلاء منوط بقرار صادر عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح رئيس مجلس الوزراء، وتُحدد آلية عمل اللجنة وفق قرار صادر عن مجلس الوزراء أكان في ما يتعلق بالمراسيم التنظيمية أو النصوص التطبيقية اللازمة لوضع القانون موضع التنفيذ، بناءً على اقتراح لجنة وزارية تتولى ذلك استناداً إلى مواد هذا القانون. وبعيداً عن الممسكين بقرار اللجنة، سيتعذّر تأليفها نظراً إلى أن الحكومة في وضعية تصريف أعمال ومقاطعة بعض الوزراء لها ومعارضة الغالبية قيامها بالتعيين. لكن في حال وُجدت صيغة لتأليفها، ستكون منحازة مسبقاً إلى مصلحة المصارف وحامية لها. رغم ذلك، كان للنواب المعدّين للمشروع الجرأة في إيراد «إعادة الاستقرار المالي» و«حماية المودعين، خاصة الصغار منهم» ضمن الأهداف المذكورة في الأسباب الموجبة. ولعل أصدق ما جاء في هذه الأسباب هو وضعهم عبارة «المساهمة في إعادة قدرة المصارف على الاستمرار» و«استعادة السيولة في القطاع المصرفي»، إذ إن ما يحصل لا يعدو كونه مسعى لتجنيب المصارف إعلان إفلاسها عبر إطفاء خسائرها على حساب المودعين والدولة على حدّ سواء. وهو ما يفسّر وضع الكابيتال كونترول على جدول الأعمال، خصوصاً أنه بات حاجة ملحّة للمصارف غداة صدور العقوبات الأميركية على سلامة وكل ما سبقه من ملاحقات قضائية في أوروبا وصولاً إلى تقرير التدقيق الجنائي ومسؤولية المصارف الواضحة فيه.
لجنة حقوق المودعين: لا لتمرير القانون
رفضت لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين تمرير مشروع قانون الكابيتال كونترول لعدّة أسباب أبرزها: عدم ذكر أو تمييز الودائع المشروعة أو غير المشروعة، عدم الإشارة إلى المحاسبة والإفلات من العقاب لمن هدر وسرق أموال المودعين بل إبراء ذمة مطلق عن مرحلة 17 تشرين حتى اليوم، تعليق الدعاوى وتعريض حقوق المودعين لمرور الزمن المسقط، غياب المُساءلة واللاتغيير في الحوكمة المالية أي هيئات مصرف لبنان التي تخاذلت عن القيام بواجباتها تجاه المودعين بل إعطاؤها صلاحية ومسؤولية المتابعة. ودعت لجنة حماية المودعين إلى الانضمام إليها في الوقفة التي تنظمها أمام البرلمان اليوم في العاشرة صباحاً.