بلغَ ملفّ هيئة إدارة السير والآليات مستوى معقّداً، ساهمَ تشابك المصالح المالية والسياسية للمتحكّمين به، بزيادة تعقيده. أما خطوة إعادة تسيير جزء من خدمات الهيئة (النافعة) وإدخال عناصر من قوى الأمن الداخلي إليها لمساعدة موظفيها في إنجاز المهام، فتصبّ في سياق إجراء الإصلاحات. لكن يبقى السؤال، هل سيكون الإصلاح جذرياً أم لا؟
من غير الواضح بعد كيف سينتهي الملف مستقبلاً. لكن المؤكَّد أن لا عودة إلى الوراء لأن رائحة الفساد عمَّت أرجاء النافعة وذهبت بعيداً، خصوصاً حين جرى الإفراج عن جملة من الموظّفين المتّهمين بالفساد وتلقّي الرشى. ورغم ذلك، لم تنعدم سبل التصحيح بشكل نهائي. إذ قرَّر المدّعي العام لدى ديوان المحاسبة القاضي فوزي خميس إحالة “رئيس مجلس إدارة ومدير عام شركة انكريبت INKRIPT، المشغّلة لجهاز المعلوماتية في هيئة إدارة السير، هشام عيتاني، على النيابة العامة التمييزية، رافعاً بذلك السقف نحو كبار المعنيين بدهاليز ملف النافعة (راجع “المدن”).
خسائر أكبر من المستحقات
شوائب بالجملة اعترت دخول شركة انكريبت إلى ميدان إدارة السير، بدءاً من تلزيمها خلافاً للقانون بعد إجراء المناقصة عبر هيئة إدارة السير، وليس عبر وزارة الداخلية والبلديات. ومع ذلك، فإن الشركة رسمت لنفسها فصلاً جديداً في مخالفة القانون قبل نحو شهرين من انتهاء عقدها مع الدولة في أيلول 2023. إذ عمدت في تموز من العام نفسه إلى التوقّف عن العمل وإقفال النظام الإلكتروني الذي يسمح بإنجاز معاملات المواطنين، متذرّعة بوجود نزاع مالي بينها وبين الهيئة لعدم تقاضيها مستحقاتها المالية، وهي عبارة عن 60 مليار ليرة لبنانية رصدت لصالح الشركة عن عامي 2021 – 2022. وبالتالي، رفضت الشركة تسليم رموز تشغيل النظام الإلكتروني لهيئة إدارة السير، قبل انتهاء العقد معها أو فسخه. علماً أن المستحقات تراكمت بفعل تدهور سعر صرف الليرة، ورفضت الشركة الإلتزام بالقرار رقم 13 تاريخ 14/4/2022 الصادر عن الحكومة اللبنانية، والذي يشمل انكريبت مع غيرها من الجهات المتعاقدة مع الإدارات العامة لجهة إيجاد الحلول المناسبة لدفع مستحقات كل تلك الجهات.
ما تريده الشركة من الدولة عن عامين، خسّرت الدولة ضعفه بمجرَّد التوقّف عن العمل لنحو 5 أيام. فحسب تقرير المدّعي العام لدى ديوان المحاسبة القاضي فوزي خميس، أدّى “تعطيل المرفق العام ومصالح المواطنين.. إلى حرمان الدولة من مداخيل مهمة تصل إلى حوالى 23 مليار ليرة يومياً”. علماً أن هيئة إدارة السير “وجّهت إنذارات عديدة للشركة تنذرها بموجبها بضرورة الاستمرار في تنفيذ التزاماتها التعاقدية الوارد ذكرها في العقد الموقّع معها، إلا أن الشركة لم تتجاوب واستمرت بتعطيل المرفق العام ومصالح المواطنين”.
معركة مصالح وقانون
منذ العام 2014 بدأت رحلة الدولة مع شركة انكريبت بمختلف تفرّعاتها، سيّما في قطاعيّ إدارة السير وجوازات السفر البيومترية. واستفادت الشركة وكبار النافذين فيها من مئات ملايين الدولارات على حساب الصالح العام. ولأن ملف النافعة دخل أروقة القضاء عن طريق سلسلة توقيفات، وباتت الأسئلة توجَّه إلى وزارة الداخلية تطالبها باتخاذ موقف مباشر ونهائي، وجّهَ وزير الداخلية بسام مولوي، كتاباً إلى ديوان المحاسبة “يطلب بموجبه إبداء الرأي بدفتر شروط شركة انكريبت ومدى انطباقه على قرار مجلس الوزراء رقم 13/2022 ويستفسر فيه حول تاريخ إنهاء العقد”.
خلص التقرير الموقَّع من قِبَل القاضي خميس، بتاريخ 7/12/2023، إلى إحالة عيتاني إلى النيابة العامة التمييزية “مع كل من يظهره التحقيق فاعلاً أو شريكاً أو متدخلاً أو محرضاً سنداً إلى المادة 27 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة لملاحقتهم جزائياً”. واعتبر خميس أن الشركة بتوقّفها عن العمل وامتناعها عن تسليم رموز تشغيل النظام الإلكتروني “ناكلة عن التزاماتها التعاقدية وتطبيق الجزاءات المفروضة في دفتر الشروط والإجراءات التي تضمن تحصيل قيمة العطل والضرر اللاحق بالإدارة والمبالغ التي حرمت منها خزينة الدولة طيلة فترة تعطّل سير المرفق العام بفعل الشركة المشغلة”.
ولا تنحصر مطالعة القاضي خميس في هذه القضية عند مسألة المستحقات المالية. فتقريره استند إلى جملة من المخالفات القانونية التي ارتكبتها الشركة وأربابها، لتصبح القضية أبعد من مستحقات مالية، وإنما معركة مصالح عامة وقانون. وبنظر خميس، فإن إقدام الشركة على إيقاف نظام التشغيل كلياً عن قصد بنيّة الضغط على الإدارة المتعاقِدة، وتالياً الدولة، يحيل الشركة والمسؤولين فيها إلى قانون العقوبات، وتحديداً “المادة 770 المتعلّقة بمخالفة الأنظمة والقوانين، وإلى المادة 733 المتعلّقة بارتكاب عن قصد لجرميّ التخريب وتعطيل سير المرفق العام، وإلى المادة 341 المتعلّقة بالتوقّف الجرمي عن متابعة تنفيذ الشغل الذي تتولاه بقصد الضغط على السلطات العامة، وإلى المادتين 429 و430 المتعلّقتين بجريمة استيفاء الحق تحكماً، والمادة 380 المتعلّقة بالتمرّد على السلطات العامة”.
فُتِحَت كوَّة جديدة في جدار تلك الشركة المحميّة. وهذه المرّة، الدولة هي التي بادرت إلى المواجهة حفاظاً على مصالحها، ولذلك من المفترض بالنيابة العامة التمييزية إكمال الطريق من حيث انتهى القاضي خميس، وصولاً إلى وضع حدّ لتعطيل المرفق العام وإلى تحصيل حقوق الدولة من الشركة، لأن التعطيل أدّى إلى خسائر مالية ومعنوية من المفترض تحصيلها، والشركة خالفت القانون في أكثر من مادة. إلاّ إذا كان هناك ما يُخَبَّأ من مواربة وتسويف في هذا الملف.