قبل أن يغادر رياض سلامة في 31 تموز من العام 2023، أخرج مفاجأة محاسبية مخفية منذ العام 2007، تتلخص بعبارة دين على الدولة اللبنانية لم يصرح عنه يصل إلى 16.5 مليار دولار.
ومن هنا تبدأ سردية جدلية أحقية هذا الدين من عدمه، والبحث في أسرار إخفائه، ولماذا يتبرأ منه وزراء المال الذي تعاقبوا بعد العام 2007، ويتملصون؟.
في 15 شباط من العام 2023، تاريخ نشر الميزانية العمومية الصادرة عن قسم المحاسبة للمصرف المركزي، ظهر الرقم 16.5 مليار دولار وعرف بأنه دين مستحق على الدولة اللبنانية، ولكنه يقبع تحت بند الموجودات الأخرى، وهو بند استثنائي من صناعة سلامة المحاسبية. وكانت كل الأرانب من خسائر وهندسات وبهلوانات محاسبية تختبئ فيه.
وما أثار زوبعة التحليلات والاستنكار أنّ هذا الدين أتى على غفلة، إذ إنّ ميزانية المصرف التي كانت تصدر وفقًا لسعر الصرف القديم أي 1500 ليرة للدولار في تاريخ 31 كانون الثاني من العام الماضي لم تأت على ذكر هذا الدين، ما يعني أنّه ظهر مع تخفيض سعر الصرف من 1500 ليرة للدولار الواحد إلى 15000 ليرة.
الناقد والمنقود حاضر دائمًا في تصريحات حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، وفي أدائه. فهو مثلًا كان يشدّد عند رحيله على أن المصرف المركزي أقرض الدولة اللبنانية بعملتها الرسميّة أي بالليرة اللبنانية. ولم يقرضها بالدولار إلا من خلال شراء الأدوات الصادرة عنها بالعملات الأجنبية أو ما يعرف بسندات اليوروبوندز حيث له في ذمة الدولة 5 مليار دولار، وهو دائن كبقية حاملي سندات اليوروبوندز.
إلّا أنَّ هذا الحديث تبدل، ليعلن أن المركزي أقرض الدولة منذ العام 2007 لغاية العام 2020، أي على مدى 13 عامًا، دولارات وصلت إلى 16.5 مليار دولار.
تبريرات سلامة لهذا الدين
من الصفر في أول العام الماضي إلى 16.5 مليار دولار في شهر شباط من العام نفسه، قفزة بالدين استند سلامة لتبريرها على كل من المادتين الواردتين في قانون النقد والتسليف وهما المادتان 85 و97 من القانون. مضمونهما باختصار هو أنّ المصرف المركزي هو مصرف القطاع العام ويعمل وكيلًا ماليًّا له. ونتيجة لذلك، بدأ في آخر العام 2007 بسداد مستحقات مالية نيابة عن الحكومة من أصولها الاحتياطية المقوّمة بالعملة الأجنبية، وقد حصل ذلك بناء على:
ضمانات مالية نقدية بالليرة اللبنانية بحسب سعر الصرف آنذاك والبالغ 1507 ليرة للدولار الواحد، على أن تتغذى هذه الضمانات من ودائع القطاع العام.
تسدد الحكومة المبلغ الذي سدّده المركزي نيابة عنها في مرحلة لاحقة بالقيمة نفسها للعملة الاجنبية، ولكن مع تخفيض سعر الصرف من 1500 الى 15000 ليرة، تجاوزت قيمة ما دفعه المصرف المركزي نيابة عن الحكومة بالعملة الاجنبية، قيمة الضمان النقدي بالليرة اللبنانية، ما أدّى إلى اعتبار صافي الرصيد مدينًا بـ16.5 مليار دولار للمصرف المركزي.
كيفيّة تقييم الإدارة الجديدة في المركزي للدين
مع تولي حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري مهام الحاكمية، تعهد بالنشر الدوري للبيانات المتعلقة بالوضع المالي للمصرف المركزي بشفافية. وانطلاقًا من هذا المبدأ وتماشيًا مع المعايير والأعراف الدولية، ألغى كل المعايير المحاسبية الملتوية التي اعتمدها سلامة لإخفاء الخسائر التي مني بها المصرف، مثل بند الموجودات الأخرى حيث أدرج سلامة موجودات وهميّة عبارة عن أرباح مستقبليّة ناتجة عن طبع العملة أو ما يعرف بالـ SEIGNIORAGE. صحيح أنّ المصرف المركزي يحقّق بالفعل مداخيل من عمليات خلق النقد، إلا أنّ تسجيل الأرباح والتي قدرت بمبالغ ضخمة وصلت إلى أكثر من 118 مليار ليرة، على أنها موجودات فعلية في ميزانية المصرف المركزي، هو أمر مخالف لمعايير الشفافية والإفصاح المالي.
أما في ما يتعلق ببند الدين على الدولة اللبنانية والبالغ 16.5 مليار دولار، فقد شكل منصوري لجنة مع وزارة الماليّة للبحث فيه. وعلى عكس الشعبويات والأخبار المغلوطة، تبيّن أن هنالك مراسلات من وزراء المال المتعاقبين منذ العام 2007 ولغاية إعلان سلامة عن هذا الدين تعترف بوجوده، ما يدحض مزاعم بعض الوزراء الذين سعوا للتملص ممّا وافقوا عليه سابقًا.
وانطلاقًا من هذه المراسلات، لا يمكن لمنصوري أن يقوم بشطبه فهو بذلك يخالف أحكام القانون، إذ ليست لديه سلطة القيام بهذه الخطوة.
أولًا: إنّ المادة 113 من قانون النقد والتسليف نصّت بصراحة وبحرفيتها على التالي: “يتألف الربح الصافي لمصرف لبنان من فائض الواردات على النفقات العامة والأعباء والاستهلاكات وسائر المؤونات. يقيد 50% من هذا الربح الصافي في حساب المصرف المركزي ويدعى «الاحتياط العام» ويدفع 50% إلى الخزينة (خزينة الدولة). عندما يبلغ الاحتياط العام نصف رأسمال المصرف يوزع الربح الصافي بنسبة 20 بالمئة للاحتياط العام و80 بالمئة للخزينة. وإذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تغطى الخسارة من الاحتياط العام وعند عدم وجود هذا الاحتياط أو عدم كفايته تغطى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة. وإذا أصبح رصيد حساب «الاحتياط العام»، من جراء اقتطاع مبلغ بموجب الفقرة السابقة، أقل من نصف الرأسمال يجري توزيع الربح الصافي مجدداً بنسبة 50 بالمئة لهذا الحساب و50 بالمئة للخزينة، إلى أن يبلغ الحساب مجدداً نصف رأس المال”.
ثانيًا: وهي النقطة الأهم والأدق من كل ما سبق، هو أنه وفي حال قررت إدارة المصرف المركزي الجديد القفز فوق القانون وشطب هذا الدين، فهي بذلك ستقدم دليلًا حسيًّا على وجود تواطؤ بين الدولة اللبنانية والمصرف المركزي، وان الكلام عن استقلالية موجودات المصرف المركزي من موجودات أجنبية والتي تفوق 9 مليار دولار، واحتياطي الذهب الذي تخطت قيمته 21 مليار دولار، ما هو إلا حجّة لتحييدهم عن أي إجراءات قضائية سيتخذها حملة سندات اليوروبوندز ضد الدولة اللبنانية، الّتي حتى الساعة لم تقم بالتفاوض مع حملة السندات على إيفاء دين بعد اعادة هيكلته لتأمين استدامة الدين العام، إذ إن سندات اليوروبوندز تحتل النسبة الأعلى من إجمالي الدين العام الذي يصل إلى 177% من إجمالي الناتج المحلي مسجلًا 19.9 مليار دولار بحسب ما أعلن البنك الدولي.
تبلغ قيمة سندات اليوروبوندز مع الفوائد المتراكمة نحو 43 مليار دولار أميركي، وإذا ما أضفنا دين المصرف المركزي على الدولة اللبنانية والبالغ 16.5 مليار دولار سيصبح إجمالي الدين 59.5 مليار دولار. وكلما كبر حجم الدين زادت نسبة الاقتطاع من سندات اليوروبنود لتأمين استدامة الدين العام ليصل إلى ما دون الـ100% من إجمالي الناتج المحلي.
فالسؤال المطروح اليوم: بماذا تستفيد الأصوات التي تعلو في لبنان لحثّ حملة السندات على مقاضاة الدولة اللبنانية بطرق شتّى مباشرة أو غير مباشرة. ونذهب أبعد من ذلك لنسأل لماذا التحريض والإشارة بشكل علني وصريح لموجودات مصرف لبنان من احتياطي قابل للاستعمال وكذلك احتياطي الذهب، سيما وان هؤلاء يدركون بان المصرف المركزي وما لديه مستقل عن الدولة اللبنانية، التي لا يمكن للدائنين الحجز على عقاراتها وموجودتها في الخارج، والمقصود مباني السفارات والقنصليات لان هذا الامر مخالف لاحكام القانون والاتفاقيات الدولية، ألا يُعدّ خيانة عظمى؟.
سؤال ستجيب عنه الأيام المقبلة مع غربلة الأسماء وشركاء الصناديق التي توصف بآكلي لحوم الجيف والتي تحمل الجزء الأكبر من سندات اليوروبوندز.