هناك شبه اجماع على ان ارقام الاستيراد والتصدير اللبنانية الرسمية ليست دقيقة، بل تخفي الكثير مما يجب كشفه ومعالجته عاجلاً أم آجلاً. وفي الانتظار لا يمكن الركون الى ارقام الاستيراد للدلالة على الاستهلاك ومستوى عيش اللبنانيين رغم الأزمة التي يمرون فيها. وقبل الذهاب بعيداً في التحليل مع اصحاب الاختصاص يمكن ذكر بعض المعطيات الأولية كالآتي:
10 حقائق دامغة لا يمكن تجاوزها
أولاً: رغم عدم دقة الارقام، هناك ثابتة لا ريب فيها هي ان العجز التجاري الكبير (الفارق بين الاستيراد والتصدير) مستمر، ويستمر معه بقوة وجود أحد مكونات الازمة. فخروج الدولارات (للاستيراد المفرط) بحاجة الى كابيتال كونترول لضبطه حتى لو كره الكارهون من التجار والمصرفيين واصحاب النفوذ والرساميل. والا فان البلد سيبقى عالقا في تفاوت طبقي هائل، ينعم فيه الاغنياء والمهربون والمتهربون من الضرائب في مقابل فئات أخرى كثيرة تعاني الأمرّين.
كما ان للعجز التجاري الهائل علاجات أخرى مثل تشجيع الصناعة المحلية وزيادة الانتاج المحلي الزراعي والصناعي والخدمي لردم الفجوة تدريجياً، وصولاً الى اكتفاء ذاتي ما في الأساسيات خصوصاً. وهذا ما يجب ان تنكب عليه الحكومة والمجلس النيابي، لكن يبدو ان مصالح التجار أهم من مصالح الصناعيين والمزارعين في لبنان.
ثانياً: بات الاصلاح الجمركي ضرورة ملحة كي تصبح الارقام اكثر دقة وتستفيد الخزينة مما يجب ان تستفيد منه بالرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة. خلاف ذلك ستبقى الدولة عاجزة عن تقديم ابسط الخدمات العامة للمواطنين (صحة وتعليم ونقل..) لا سيما الفقراء منهم.
ثالثاً: جزء اساسي من فاتورة الاستيراد يذهب للمشتقات النفطية، ويعود ذلك الى عدم وجود نقل عام ومشترك لإبقاء اللبنانيين يعتمدون على السيارات فقط. فاعتماد السيارة يبقي على فاتورة استيراد المشتقات النفطية مرتفعاً لمصلحة مستوردي البنزين. كما ان اصلاح الكهرباء متعثر بفعل فاعل ليبقى اصحاب المولدات وتجار الفيول يربحون اكثر ويتقاسمون الريع مع اطراف نافذة في المنظومة. لذا، ولتخفيف فاتورة المشتقات النفطية يفترض قيام نقل عام ومشترك واسع النطاق واصلاح الكهرباء جذرياً.
رابعاً: في التفاصيل الأخرى، يبدو ان في ارقام الاستيراد المرتفعة شبهة تهريب اموال الى الخارج في ظل عدم وجود نظام مصرفي محلي موثوق. فبعض المؤشرات تدل على ان ارقام فواتير الاستيراد مضخمة وتخفي عمليات تهريب اموال في بلد هو بأمس الحاجة الى عملات صعبة في رحلة تعافيه ونهوضه من الازمة.
خامساً: التهريب الى سوريا الناشط جداً يرفع فاتورة الاستيراد لكنه لا يفيد الا المهربين والتجار المستوردين، ويضغط على سعر صرف الدولار في لبنان. فارتفاع الاستيراد (لبلدين) يعني زيادة الطلب على الدولار، فيبقى شبح انخفاض الليرة قائماً.
سادساً: جزء اساسي من الاستهلاك (الاستيراد) مدفوع بمواسم ينتعش فيها قدوم المغتربين، كما ان تحويلات المغتربين الى ذويهم ينعش بعض الاستهلاك. لكن ليس كل اللبنانيين مغتربين او لديهم من هو في الخارج ليحول اليهم الاموال.
سابعاً: في ظل الوضع القائم شواذات هائلة مثل ان الدولار غير متوفر للادوية المستعصية ما يتطلب دعماً من مصرف لبنان (ما تبقى من اموال المودعين)، بينما الدولار متوفر لاستيراد السيارات والذهب والسلع الفاخرة !
ثامناً: لا يمكن ان تفسر ارقام الاستيراد المرتفعة ان اللبنانيين عادوا للاستهلاك ويتجاوزون الازمة. فحقيقة الامر الشاذ تكمن في التفاوت الهائل في المداخيل الذي جعل الاغنياء يبالغون في الاستهلاك العادي والفاخر، وهو استهلاك رخيص بالنسبة لهم (مع التهرب الجمركي والضريبي) مقابل شرائح واسعة اخرى من السكان تعيش «خبزنا كفاف يومنا».
تاسعاً: استمرار مصارف الزومبي المحمية من المنظومة لمصلحة حلفائها المصرفيين يدفع لبنانيين الى الاستهلاك بدل الادخار. وليس في ذلك اشارة الى رخاء او رفاهية بل تشوه من التشوهات الهائلة التي انتجتها الازمة. الى ذلك يضاف عامل «اقتصاد الكاش» الخارج عن اعين دوائر الضرائب والافصاح. وهذ الاقتصاد يشجع المستفيدين منه على الاستهلاك.
عاشراً: عدد من الاتفاقات التجارية اللبنانية (الحرة!) مع الخارج (مثل مع الاتحاد الاوروبي وتركيا..) ليست في مصلحة لبنان حالياً، وتنصح المنظمة الأممية «الاسكوا» بتعديلها في مصلحة الانتاج المحلي وخزينة الدولة.
ماذا في بداية التحليل والإستقصاء؟
لا يمكن تفسير ارتفاع فاتورة الاستيراد هذه السنة، اي خلال العام الرابع للأزمة المستفحلة، والتي قد تبلغ 19 مليار دولار لتقارب مستوى سنة 2019 بعامل واحد، بل هناك مجموعة عوامل عالمية (تضخم اسعار) وداخلية (استيراد سيارات وذهب بهدف التخزين واعادة التصدير)، ونفسية (الشعور بأن الادخار غير مفيد بعدما سرقت المصارف أموال المودعين)، ومافيوية (استمرار التهريب الى سوريا وتهريب الاموال الى الخارج عبر تضخيم فاتورة الاستيراد).
كما ان أرقام الاستيراد المرتفعة تدل على أن تصرفات اللبنانيين الاستهلاكية تبدو سريالية وغير مفهومة في ظل تقلص قيمة رواتبهم واستمرار الانهيار الحاصل في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص. علماً أن القطاع الخاص عمد الى تصحيح رواتب العاملين فيه منذ العام 2022 بشكل أفضل بكثير مما هم عليه موظفو القطاع العام. لكن هذا التصحيح ليس كافياً لفهم الصورة بمجملها. بل يحتاج الامر الى تفنيد وتحليل لهذه العوامل خصوصاً أن الارقام الصادرة عن الجهات المتخصصة تدل على أن تداعيات الازمة، التي انفجرت في الـ2019، لا تزال مستمرة ومتروكة من دون معالجة حقيقية.
ماذا تقول لنا الأرقام والإحصاءات؟
التقرير الاقتصادي لبنك عوده عن الفصل الثالث من العام الحالي يلفت الى أن «الإنفاق الاستهلاكي سجّل نمواً بنسبة 2 بالمئة خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2023. وعلى صعيد القطاع الخارجي، تقلصت الصادرات بنسبة 24 بالمئة سنوياً، من 2.1 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام 2022 إلى 1.6 مليار دولار خلال الفترة المقابلة العام 2023. ورغم أن قيمة الواردات انخفضت من 10.8 مليارات دولار أميركي، في الأشهر السبعة الأولى من العام 2022 الى 9.8 مليارات دولار في الفترة المقابلة من العام 2023، إلاّ أن هذا الإنخفاض لا يعبّر عن تراجع في الاستهلاك الخاص. ذلك أن انخفاض الواردات عائد بصورة خاصة الى بابَيْن اثنين: السيارات والنفط. فاستيراد السيارات انخفض بقيمة 0.6 مليار دولار لأن وكلاء السيارات كانوا قد أجروا طلبيّات مفرطة قبل الرفع المتوقَّع لسعر الدولار الجمركي. أما استيراد النفط، فتراجع بقيمة 0.6 مليار دولار لأن أسعار النفط انخفضت بنسبة 20 بالمئة عن المستويات التي كانت قد بلغتها بعد اندلاع الحرب الروسية -الأوكرانية. وإذا استثنينا هذين البابَيْن، نلاحظ أن أهم أبواب الاستيراد (أي المواد الغذائية، المشروبات، الملبوسات والمجوهرات إلخ…) زادت كلّها، تدليلاً على ارتفاع الاستهلاك الخاص».
بلغة الارقام أيضاً وبحسب تقرير جمعية المصارف (الفصل الثالث-ايلول 2023)، فان «حركة الاستيراد تراجعت إلى 9798 مليون دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام 2023، وبنسبة 9,4 بالمئة بالمقارنة مع الفترة ذاتها من العام 2022، في حين سجّلت الكمّيات المستوردة المقاسة بالأطنان ارتفاعاً بسيطاً بنسبة 0,8 بالمئة. وتوزّعت الواردات السلعية في الأشهر السبعة الأولى من العام 2023 بحسب نوعها كالآتي: احتلّت المنتجات المعدنية (النفطية) المركز الأول وشكّلت حصّتها 26,3 بالمئة من المجموع، تلتها المعادن الثمينة من ذهب والماس ومجوهرات (14,5 بالمئة)، فالآلات والأجهزة والمعدّات الكهربائية (10,0بالمئة)، ثمّ منتجات الصناعة الكيميائية (7,3بالمئة)، فمنتجات صناعة الأغذية (6,0 بالمئة). وعلى صعيد أبرز البلدان التي استورد منها لبنان في الأشهر السبعة الأولى من العام 2023، حلّت الصين في المرتبة الأولى إذ بلغت حصّتها 12,3بالمئة من مجموع الواردات، لتأتي بعدها اليونان (10,7بالمئة)، فسويسرا (10,2بالمئة)، ثمّ تركيا (8,3 بالمئة)، وايطاليا ( 5.7 بالمئة)…
في ما يتعلق بحركة التصدير، أشار التقرير نفسه الى أن قيمة الصادرات السلعية تراجعت إلى 1614 مليون دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام 2023 وبنسبة 24,2 بالمئة بالمقارنة مع الفترة ذاتها من العام 2022.
وتوزّعت الصادرات السلعية في الأشهر السبعة الأولى من العام 2023 بحسب نوعها كالآتي: احتلّت المعادن الثمينة من ذهب والماس ومجوهرات المركز الأول وبلغت حصّتها 22,2 بالمئة من مجموع الصادرات، تلتها المعادن العادية ومصنوعاتها (15,3بالمئة)، ثمّ الآلات والأجهزة الكهربائية (13,5بالمئة)، فمنتجات صناعة الأغذية (13,2بالمئة)، ثمّ منتجات الصناعة الكيماوية (9,6بالمئة). ومن أبرز البلدان التي صدّر إليها لبنان السلع في الأشهر السبعة الأولى من العام 2023: الإمارات العربية المتحدة التي احتلّت المرتبة الأولى وبلغت حصّتها 20,5 بالمئة من إجمالي الصادرات السلعية، تلتها تركيا (6,6 بالمئة)، ثمّ مصر (5,4 بالمئة)، فالعراق (4,9 بالمئة)، ثمّ سويسرا( 4.8 بالمئة).
شمس الدين: يبدو أن الإستيراد في 2023 سيبلغ 19 مليار دولار.. لماذا؟
يفسر الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين ارتفاع ارقام الاستيرداد من زاوية أخرى، فيشرح لـ»نداء الوطن» أن «الاستهلاك والاستيراد انخفضا نتيجة الازمة، لكن الكلفة ارتفعت بسبب ارتفاع الاسعار عالمياً»، لافتاً الى «دخول منتج جديد على قائمة الاستيراد وهو الواح الطاقة الشمسية والبطاريات التي بلغت فاتورة استيرادها في العام 2021 نحو 121 مليون دولار، وارتفع في 2022 الى 722 مليون دولار وبلغ في 2023 نحو 600 مليون دولار. كما استمر استيراد السيارات (46 الف سيارة العام الماضي وهو رقم كبير مقارنة مع السوق اللبناني خوفاً من زيادة الرسوم)، أما استيراد المجوهرات والذهب فهو إما للتخزين أو لاعادة التصدير».
يذكّر شمس الدين أنه «في العام 2018 وصلت فاتورة الاستيراد الى 19 مليار و900 مليون دولار، وفي 2019 الى 19 مليار 200 مليون دولار، وفي 2020 /2021 تراجع الاستيراد نتيجة جائحة كورونا والاغلاق والازمة الاقتصادية فسجلت في 2020 نحو 11 مليار و300 مليون، وارتفعت في 2021 الى 13 مليار و640 مليون دولار. وفي 2022 عدنا تقريباً الى نفس مستويات الاستيراد التي كانت قبل الازمة حيث بلغ الاستيراد 19 مليار و51 مليون دولار، وفي 2023 يبدو اننا سنستورد بنفس المبلغ».
نحاس: فواتير مضخمة تحمل شبهة تهريب أموال إلى الخارج
في تحليل هذه الارقام، يصف أمين عام «مواطنون ومواطنات في دولة» شربل نحاس لـ»نداء الوطن» ملف الاستيراد في لبنان بأنه «شائك وهو موضوع دراسة وتدقيق من قبل الفريق العامل معه»، مشيراً الى أن «الامر الاساسي الذي يمكن الوقوف عنده في عملية الاستيراد هو أن هناك مواد زاد استيرادها إما لاعادة تصديرها الى سوريا، كونها تعاني من عقوبات دولية عليها من دون ان يسجل انه يعاد تصديرها بالضرورة. والامر الآخر ان هناك من يريد اخراج دولاراته الى الخارج من خلال الاتفاق مع الموردين لتضخيم الفاتورة وابقاء قسم من الاموال في الخارج في حسابات مصرفية».
و يستدرك بالقول: «يحتاج الامر الى جهد مضن لفرز انواع الاستيراد التي زادت والمواد التي يمكن تقديرها بالوزن، ومقارنة الاسعار بالوزن لمعرفة اذا تم تضخيمها ام لا، لأن حجمها يمكن ان يختلف وبنسبة كبيرة»، جازماً بأن «العنوان الاقتصادي الاساسي هو ان الدولارات التي تدخل الى لبنان سواء من المغتربين او من المنظمات الدولية للمساعدات هي التي تموّل الاستيراد بالدولار الكاش بعد ان اصبح الاقتصاد مدولراً بشكل كبير. أي ان هناك كميات كبيرة من الدولارات يتم جمعها من السوق اللبناني، ما يدفع التجار لاخراج دولاراتهم بالتعاون مع وسطاء في الخارج عبر تضخيم ارقام الاستيراد من دون ان تكون حقيقية بالضرورة، وذلك بهدف اخراج هذه الدولارات الى حسابات مصرفية في الخارج بدل ابقائها في لبنان».
يشدد نحاس على أنه «ليس من المقبول ومن غير العادي أن يكون البلد مدولراً وفي الوقت نفسه لا يملك نظاماً مالياً، فالمسؤولون في مصرف لبنان ولجنة الرقابة عن المصارف يتحملون مسؤولية هذا الغياب»، مؤكداً أننا «نعيش في وضع لا مثيل له في العالم، لأننا نستعمل عملة دولة أخرى هي الدولار للاستيراد والتصدير، ولا نملك نظاماً مالياً سليماً، بل مصارف زومبي، وهذا يمنع تأمين المدفوعات وفق الاصول»، مكرراً أن «كل ما يجري هو من مسؤولية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، لاعادة تنظيم القطاع المصرفي وتسوية اوضاع البنوك إما باخراجها من السوق مع ضمان حقوق المودعين أو بحسب قانون النقد والتسليف».
ويختم: «ما يحصل اليوم هو تهرب مستمر من المسؤوليات على مدى اربع سنوات، وهذا الوضع حكماً سيؤدي الى ظواهر غريبة تحتاج الى دراسة وتدقيق، ومنها استمرار الاستيراد بشكل مرتفع كصيغ بديلة لاخراج الاموال الى خارج لبنان».
رمال: الإستهلاك قائم أساساً على نسبة 20% من السكان والمغتربين
من جهته يشرح عضو المجلس الاجتماعي الاقتصادي عدنان رمال اسباب ارتفاع فاتورة الاستيراد وفقاً لمعطيات السوق الداخلي، فيقول لـ»نداء الوطن»: «لبنان يستورد بنسبة 80 بالمئة من المواد التي يستهلكها، وحتى الصناعة المحلية اللبنانية بحاجة الى نحو 50 بالمئة من المواد الاولية هي مواد مستوردة. كما أن قيمة فاتورة المحروقات كبيرة جداً لان الاعتماد الاساسي في عملية لانتاج هو على التيار الكهربائي، بالاضافة الى الاستهلاك الداخلي».
يضيف: «حين كان هناك تدهور كبير في قيمة الرواتب والقدرة الشرائية لم تنخفض فاتورة الاستيراد اقل من 12 ملياراً سنوياً، علما ان البلد كان في ازمة وفي ظل قدرة شرائية منخفضة جداً وفي ظل جائحة كورونا (نصف السنة اقفال). هذا يعني ان هناك حداً ادنى للاستيراد لا يمكن ان ينخفض دونه والسبب ان الاستيراد يؤمن حاجاتنا الاساسية».
يقسّم رمال «المجتمع اللبناني الى 3 فئات، الاولى ذات القدرة الشرائية المنخفضة جداً وتحت خط الفقر والتي تشكل تقريباً 30 الى 40 بالمئة من الشعب اللبناني، وتحتاج الى مساعدات من منظمات دولية والمجتمع الدولي او من ذويهم من الخارج او من الحكومة اللبنانية عبر برنامج «امان»، وهذه النسبة زادت خلال الازمة. الفئة الثانية هي الطبقة الوسطى التي باتت وسطى – فقيرة بعدما تراجعت قدراتها الشرائية بعد الانهيار، لكنها قادرة على الاستمرار كونها تعمل في القطاع الخاص ونسبة رواتبها تحسنت منذ منتصف العام الماضي، والفئة الثالثة هي فئة 20 بالمئة الذين يتوزعون بين رواد اعمال واصحاب مهن حرة او مغتربين». ويختم: «النسبة التي يقوم عليها الاستهلاك هي المغتربون واصحاب المداخيل الجيدة والكبيرة، اي فئة الـ 20 بالمئة بالاضافة الى نسبة 40 بالمئة من الفئة التي كانت وسطاً وصارت تحت الوسط».
البواب: رواتب تصححت وسياحة ازدهرت… وتضخم مستمر
يربط الخبير الاقتصادي الدكتور باسم البواب ارتفاع الاستيراد في لبنان بالنمو الذي حصل في أكثر من قطاع ولا سيما القطاع السياحي، والتطورات الايجابية التي شهدها القطاع الخاص، فيوضح لـ»نداء الوطن» أن «الاستيراد زاد هذا العام بسبب تحسن القدرة الشرائية لدى موظفي القطاع الخاص بعد زيادة رواتبهم، بالاضافة الى أن القطاع العام ازدادت رواتبه لكن لا يمكن مقارنته بالقطاع الخاص. كما ان موسم الاصطياف شهد ازدهاراً كبيراً مما استوجب زيادة في الاستيراد، خصوصاً أننا نستورد 85 بالمئة مما نستهلكه، و هذا يعني انه كلما نشطت الحركة السياحية كلما زاد حجم استيرادنا».
يضيف: «في العام 2018 بلغ حجم استيرادنا نحو 23 مليار دولار تقريباً، وفي 2020 انخفض الى 10 مليارات وثم ارتفع تدريجياً (نحو 18 مليار في 2022)، وحالياً اتوقع ان تكون نسبة الاستيراد نحو 18 ملياراً على الاقل»، معيداً السبب الى أن «2 مليار زادت بسبب التضخم في الاسعار الحاصل عالمياً وهذا يعني ان الفاتورة زادت بنسبة 10 بالمئة حتى لو كانت الكمية هي نفسها. يضاف اليها ارتفاع اسعار الطاقة عالمياً ونحن نستورد كميات كبيرة من المشتقات النفطية وايضاً استيراد ألواح الطاقة الشمسية. وفي بداية العام الحالي تم استيراد السيارات خوفاً من ارتفاع الرسوم على الجمارك، وهذا يعني اننا لدينا مخزون من البضائع التي تصنف على أنها كماليات». ويختم: «أتوقع أن تكون أرقام الاستيراد للعام الحالي مرتفعة بسبب التضخم وارتفاع اسعار النفط».
بحصلي: إستيراد السلع الغذائية على حاله… نحو 4.5 مليارات دولار سنوياً
في شق المواد الغذائية يشرح رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية في لبنان هاني بحصلي لـ»نداء الوطن» أنه «في ما يتعلق بالمواد العذائية ليس هناك فروقات كبيرة في الاستيراد، بين قبل الازمة وبعدها حصل انخفاض في الاستيراد ولكن بنسب أقل من باقي السلع. فمجموع استيراد المواد الغذائية (اي كل ما يدخل في صلب المطبخ اللبناني من لحوم ودواجن ومواشٍ ومواد حية تقريباً) يبلغ 4.5 مليارات دولارسنوياً، وهذا الرقم لم يتغير بشكل كبير وجوهري خلال سنوات الازمة، بل لا نزال ضمن المستويات نفسها مقارنة مع الاصناف الاخرى».
يضيف:»في لبنان نسبة المواد التي تستهلك كل يوم كبيرة جداً لا سيما المواد الاساسية. أما الاصناف الفاخرة فهي في الاساس لم تكن تستورد بشكل كبير (اجبان فرنسية/ لحوم) لكنها اصناف لا تؤثر على مجمل أرقام الاستيراد بشكل كبير»، جازماً بأن «نسبة استيراد هذه المواد ضئيلة في الاصل. وعندما حصلت الازمة انخفض استهلاكها لكن الاستهلاك العادي للمواد الاخرى بقي نفسه»، ويوضح: «صحيح أن نوعية البضائع الاساسية تغيرت (صارت من تركيا مثلاً بدلاً من دول الاتحاد الاوروبي) لكنها بقيت بنفس الكمية، والاختلاف في السعر تراوح بين 5 و10 بالمئة وليس اكثر». ويختم: «حتى لو كانت هناك نسبة تراجع في القدرة الشرائية لدى اللبنانيين، لكن ليس هناك فرق كبير في أرقام استيراد المواد الغذائية لأن معظم الاصناف التي تستورد، هي اما مواد اولية للصناعات أو اصناف استهلاكية درجة اولى (سكر/ أرز/حبوب ومعلبات)».
طربيه: دلالات كثيرة للسلوك الإستهلاكي اللبناني الباذخ
في التحليل النفسي – الاجتماعي لظاهرة الاستهلاك العالي للبنانيين التي تؤدي الى ارتفاع فاتورة الاستيراد، يفسر الباحث الاجتماعي الدكتور مأمون طربيه لـ»نداء الوطن» أن «السلوك الاستهلاكي الباذخ للبنانيين مقارنة مع الازمة الاقتصادية الحاصلة له اكثر من دلالة. في الدلالة السيكولوجية هذا السلوك يشير الى أن اللبنانيين يعمدون الى الاستهلاك (المفرط احياناً) كرد فعل على ظرف معين، مثل أن اموالهم التي تعبوا فيها وتبخرت في المصارف تدفعهم لعدم التفكير بالمستقبل والادخار لعيش حياة كريمة، وباتوا يصرفون كل ما يجنونه من دون حساب، وصار تفكيرهم آنيا في أسلوب المعيشة، اما الادخار للمستقبل فتأجل».
يضيف: «في البعد الاجتماعي أو الثقافي لظاهرة الاستهلاك، تعوّد اللبناني على نمط معيشة مريح وعلى الرفاهية، ولم يستطع الخروج من نمط الحياة هذا رغم تراجع قيمة الرواتب»، مشيراً الى ان «الازمة الحالية فرضت على جزء من اللبنانيين العمل في أكثر من مكان لتأمين مدخول أكبر، علماً أن الازمة الحالية ولّدت فئتين اجتماعيتين اضافيتين هما: الاغنياء الجدد الذين استغلوا الازمة لجني ارباح طائلة (تجار وصرافون تلاعبوا بالعملة…) صار مدخولهم كبيراً، والفئة الثانية هم الفقراء الجدد الذين تقلصت وذابت مداخيلهم بفعل الازمة».
ويختم: «الاستهلاك الباذخ هو من يمارسه الاغنياء الجدد في لبنان. كما هناك رد فعل اكتئابي من قبل جزء من اللبنانيين الذين قرروا العيش لحظة بلحظة، لأنه تبين ان الاموال التي ادخروها ذهبت لغيرهم وصاروا يسألون أنفسهم ما نفع أن ندّخر من جديد؟».