بين ليلة وضحاها، انقلبت حياة مئات الأسر اللبنانية رأساً على عقب، ولم تعد فرص النجاة من ويلات الحرب والنزوح يسيرة، بل أصبحت باهظة الثمن، وسط ضيق خيارات الهروب إلى خارج البلاد حيث الأمان. وقد أدى قرار شركات الطيران الأجنبية بتعليق رحلاتها من لبنان وإليه، إلى ارتفاع أسعار تذاكر السفر بشكل جنوني في حال وجدت أصلاً. إذ نفدت تذاكر السفر عبر شركة طيران الشرق الأوسط على المدى القريب.
ومع تعرّض المعبر الرسمي عبر البر إلى سوريا للقصف الإسرائيلي، لم يعد أمام اللبنانيين سوى البحر، ليشكل الملاذ الأخير للهروب من خطر الحرب. وليس خيار الهروب عبر البحر متاحاً للجميع، فللمنفذ البحري أيضاً تحدّياته التي تحول دون تمكّن الآلاف من اللبنانيين من مغادرة مناطق الاستهداف الإسرائيلي.
رحلات بحرية
من مرفأ طرابلس، بدأت عشرات العائلات بحجز رحلات للهروب من لبنان على متن “عبّارات” تقلهم إلى مدينة مرسين التركية. وتظهر إعلانات عديدة يتم الترويج لها على صفحات التواصل الاجتماعي، نشاط هذا النوع من التجارة.
أسبوعياً، تنطلق رحلتان كل ثلاثاء وخميس إلى منطقة مرسين التركية، بسعر يبدأ من 350 دولاراً، لرحلة ذهاباً وإياباً، وقد تصل إلى 500 دولار، فيما تصل أسعار التذاكر لرحلات الذهاب فقط إلى ما يقارب 200 دولار تقريباً، وكل ما يتطلب من المسافر القيام بإجراءات الحجز المسبق على متن العبّارة، بالإضافة إلى جواز سفر صالح لمدة لا تقل عن 6 أشهر.
يقول أحد الوسطاء لنقل المسافرين من لبنان إلى مرسين أحمد موسى لـ”المدن”: ارتفع الطلب على الرحلات البحرية بشكل كبير بعدما بات من الصعب على اللبنانيين السفر عبر مطار رفيق الحريري الدولي. وخلال الأسبوعين الماضيين، زاد الطلب على الرحلات، وانتقل ما لا يقل عن 800 لبناني تقريباً. وحسب موسى، “تعد الرحلة مناسبة جداً للعائلات، وهي أيضاً تستوفي جميع الشروط الصحية كما تراعي معايير السلامة العامة، وتبحر في رحلة تستغرق ما بين 8 إلى 10 ساعات تقريباً”.
ويشير موسى إلى أن “الرحلات إلى تركيا عبر مرفأ طرابلس ليست حديثة، ولكن تم تسليط الضوء عليها بسبب الحرب، إذ عادة ما كانت هذه السفن تنقل المسافرين إلى تركيا ضمن رحلات سياحية”.
بالإضافة إلى السفر عبر العبّارات، يمكن أيضاً السفر من خلال سفن كبيرة مجهزة بغرف نوم، ووسائل ترفيه، ويمكن أن تنقل المسافرين من لبنان إلى مناطق مختلفة في تركيا. وحسب ما تظهره الإعلانات، فإن تكلفة السفر عبر هذه السفن تصل إلى 1000 دولار للشخص الواحد.
قبل بدء الحرب، كانت الكثير من السفن أو العبّارات الصغيرة، تتجه من مرفأ طرابلس إلى تركيا ولكن بنسب محدودة، وعادة ما تنشط خلال فصل الصيف، مع وجود المغتربين، فيما لم تكن الأسعار حينها تتخطى حاجز 35 دولاراً تقريباً للمقعد الواحد (بالنسبة إلى العبّارات الصغيرة والتي لا تحتوي على وسائل ترفيه)، وبالتالي عند مقارنة الأسعار قبل الحرب، يلاحظ ارتفاعها عشرة أضعاف ما كانت عليه نتيجة ارتفاع الطلب، واستغلال للأوضاع الأمنية والإنسانية.
إقبال متزايد
وتظهر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، ردوداً مختلفة على إعلانات السفر من خلال البحر، إذ يبدو أن هناك إقبالاً على السفر إلى “مرسين” تحديداً. وحسب إحدى المنشورات، فإن تكلفة السفر لعائلة مكونة من أربعة أشخاص، أرخص من السفر عبر الطائرة، بعدما تخطى سعر التذكرة الواحدة حاجز 1500 دولار.
يقول حسن الترحيني من سكان الضاحية الجنوبية، ولديه طفل، لـ”المدن”، بأنه قرر السفر وعائلته إلى تركيا عبر البحر، “بعدما تعذّر الحصول على تذكرة للسفر عبر الطائرة“. ويضيف “لم يكن أمامنا أي فرصة للحصول على مأوى بعدما اضطررنا للخروج من منزلنا في منطقة الشياح. ولذا توجهنا إلى محافظة الشمال، ومنها نسعى للحصول على مقعد لرحلة يوم الثلاثاء المقبل”.
تعد تركيا من الدول التي تستقبل اللبنانيين بموجب اتفاق تم توقيعه منذ سنوات، بين الحكومتين اللبنانية والتركية، والذي يسمح للبنانيين بالسفر والإقامة في البلاد مدة 90 يوماً تقريباً.
إلى قبرص أيضاً
ساعد الموقع الجغرافي للبنان، إن لناحية طول ساحله أو قربه من جزيرة قبرص، في إنقاذ الكثير من اللبنانيين الفارين من الحرب. إذ تعد قبرص التي تبعد حوالى 200 كيلومتر من لبنان، إحدى أهم الوجهات التي يمكن الوصول إليها في هذه الظروف أيضاً.
ومن منطقة “ضبية” في قضاء المتن، وتحديداً من “مارينا ضبية”، يمكن لميسوري الحال السفر إلى قبرص عبر يخوت فاخرة، وبأسعار تتراوح ما بين 2000 و2500 دولار للشخص الواحد. تستغرق الرحلة ما يقارب 5 ساعات تقريباً، وتتطلب وجود تأشيرة دخول إلى قبرص، بالإضافة إلى جواز سفر. وحسب الشركات المسيرة للرحلات عبر اليخوت، هناك نوعان من الرحلات، الرحلات الفردية التي تتطلب الانتظار إلى حين اكتمال عدد المسافرين عبر اليخت، الذي يتسع لما بين 10 إلى 12 شخصاً. أما النوع الثاني، فهي للرحلات الفورية، والتي يمكن خلالها لعائلة استئجار اليخت بأكمله. وهذه الأخيرة ترتفع تكلفتها كثيراً عن أسعار الرحلات الفردية.
منذ العام 2019، نشطت بشكل كبير آليات السفر عبر البحر. إذ شكل الأخير ملاذاً لمئات اللبنانيين وتحديداً الفقراء الباحثين عن فرصة حياة أفضل، هرباً من الوضع الاقتصادي والمعيشي. لكن اليوم، اختلفت معايير الهروب عبر البحر، فلم تعد تلك الوسيلة التي تراعي الفقراء ومتوسطي الحال، متاحة لهم اليوم، بل أصبحت حكراً على أصحاب الميزانيات المتوسطة والمرتفعة.