قبل أسابيع، علت صرخة أطباء القلب بعدما انقطعت أدوية يتناولها مرضى القلب والقصور الكُلوي، بعضها لا بديل عنه. اليوم، صرخة أخرى من أمكنة أخرى (ضغط، سكري…) ستكبر مع الوقت، مع الانقطاع المتلاحق لعدد كبير من الأدوية. صحيح أن الانقطاع مؤقت وأن بعض البدائل حاضرة، وإنما الواقع ينبئ بكارثة يبدو القطاع الصحي مُقبلاً عليها
ليس حدثاً عابراً أن تصبح «راسورات» القلب كلها من المقاس ذاته (!)، أو أن يعاد استخدام المستلزم الطبي الذي يفترض أنه صُمّم للاستخدام مرة واحدة لثلاث مرات، أو أن تُفقد أكياس الدم من السوق ويصبح على المرضى انتظار «شحنة» المستلزمات كي تأتي من الخارج. لكن، في الوقت نفسه، لم تعد هذه أحداثاً استثنائية. ففي كل يوم، ثمة ما يحدث. دواء ينقطع من هنا، ومعدات طبية يعاد «تدويرها» لإعادة استخدامها… قصص تحيل إلى خلاصة واحدة: «القطاع الصحي على شفير الانهيار». هذا ما قاله، أمس، رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي، عقب الجلسة الطارئة التي عقدتها اللجنة بحضور نقباء المستلزمات الطبية ومستوردي الأدوية والمستشفيات والممرضين والممرضات.
بات الانهيار واقعاً. هذه حقيقة فرضتها الأزمة الاقتصادية المالية التي كان من تبعاتها انقطاع كثير من المستلزمات الطبية وبعض الأدوية، كان آخرَها دواءا lasix وburinex (مدرّ للبول) اللذان يستخدمهما بشكلٍ خاص مرضى القلب والقصور الكُلوي المزمن. وفيما تأمّن الدواء الأول نظراً إلى صعوبة إيجاد بديل مناسب، لا يزال الثاني مقطوعاً، ويستعاض عنه بأدوية بديلة. ليست هذه الأدوية سوى عيّنة بسيطة مما يجري، ففي وقت «ينوجد» أحد الأدوية بعد انقطاع، ينقطع دواء آخر… وهكذا. اليوم حان «دور» بعض أدوية الضغط ومُسيلات الدم (aspicort مثالاً) وبعض الأدوية الهرمونية التي تستخدمها النساء (حبوب منع الحمل yasmine مثالاً) وبعض أدوية البنج. ولن تصبح هذه الأخيرة في متناول اليد، إلا عندما تأتي «الشحنة». باتت هذه اللازمة ضرورية في الوضع الحالي المتزامن مع أسوأ أزمة مالية في البلاد. وبسبب ذلك، قد يطول أمد الانقطاع حتى «أربعة أسابيع في بعض الأحيان»، على ما يقول نقيب مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات كريم جبارة. صحيح أن الانقطاع ليس حدثاً مرافقاً للأزمة، وإنما في كل عام ثمّة أدوية تنقطع بشكلٍ مؤقت ثم تعود، لكن ما يختلف هذا العام أن النسبة زادت. وفي هذا الإطار، يشير جبارة إلى أنه «في السنوات العادية، كانت نسبة الانقطاع المؤقت للأدوية تراوح ما بين 1 و2%، أي بحدود 100 دولار من أصل 5000، أما اليوم فإننا نصل الى 6 و7 وحتى 10% في بعض الأحيان». وهي نسبة «تحدث للمرة الأولى». من هنا، شاع استخدام الأدوية البديلة، وهذا ليس عاملاً سلبياً، بل يفسره جبارة على أنه «حسن حظ»، مشيراً إلى أن غالبية الأدوية لها بدائل، ما يخفّف وطأة الأزمة. مع ذلك، ثمة خوف من انقطاع البديل أيضاً، وخصوصاً في «ظل توجه الناس إلى تخزين هذه الأدوية خوفاً من انقطاعها أيضاً». هذا ما يقوله جبارة وما يؤكده عراجي. وقد دفع ذلك بأصحاب الصيدليات والمورّدين أيضاً إلى التقنين في توزيع الأدوية.
لكن هذا يبقى سبباً، من دون أن يكون الأساس. ثمة أسباب أخرى يردفها جبارة ونقيب الصيادلة في لبنان، غسان الأمين. أحدها، بحسب جبارة، هو الآلية التي فرضها مصرف لبنان لاستيراد الأدوية، إذ «تتطلب ما بين شهر وشهر ونصف شهر كي يصبح الملف جاهزاً في حال جرى التوافق عليه، وهو ما يؤخر مواعيد الشحنات».
إلى تلك، تضاف أيضاً معضلة الـ»fresh money» التي تزيد الطين بلة، وخصوصاً «أنها تعادل في بعض الأحيان ما يؤمّنه المصرف من دولارات على أساس السعر الرسمي للدولار». أما ثاني الأزمات، التي لن يقولها المورّدون، فيتكفل بها الأمين، إذ يشير إلى العامل «غير المرئي»، وهو أسعار الأدوية التي باتت «رخيصة جداً بالعملة الأجنبية». يدفع ذلك ببعض الموردين إلى شراء كمية كبيرة من الأدوية وفق آلية مصرف لبنان «للعمل على تهريبها مجدداً إلى الخارج بأسعار مضاعفة».
وهذا الأمر أخذ حيزاً من النقاش في جلسة لجنة الصحة النيابية أمس، إذ أكد عراجي أن «هناك أدوية يعاد بيعها للخارج على أساس أنها وطنية بأسعار مضاعفة ويُحرم منها المرضى». وتتمة القصة أنه «ما إن تصل تلك الأدوية إلى المرفأ وقبل أن تدخل إلى لبنان حتى يعاد تصديرها وبيعها». وهذه حقيقة تحقق فيها اللجنة لكشف من يقومون بذلك.
هذه الأزمات مجتمعة أوصلت القطاع «إلى مرحلة الخطر»، يقول عراجي. من اجتماع اللجنة أمس، خرج رئيسها بتلك الخلاصة المخيفة التي تقول إن القطاع يقترب من الانهيار في حال استمر الوضع على ما هو عليه. والخوف من أن يكون «السيناريو في لبنان شبيهاً بسيناريو فنزويلا التي انهارت بانهيار القطاع الصحي مع فارق المقوّمات بين البلدين».
اليوم، يعاني قطاع الدواء الذي انخفضت نسبة استيراده بحدود 18% (8% العام الماضي و10% في الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري). وفيما كان مخزون الدواء «يكفي بالعادة لثلاثة إلى أربعة أشهر، بات اليوم يكفي لشهر ونصف شهر، وفي أحسن الأحوال لشهرين فقط»، وفق جبارة. أكثر من ذلك، يشدّد على أن «الوضع دقيق»، وهو بطبيعة الحال ليس خاصاً بالدواء فقط، بل يطاول أيضاً قطاع المستلزمات الذي يواجه مصيراً أسوأ مع تراجع الاستيراد بحدود 75%، إذ يبلغ «جملة ما استورده القطاع من مستلزمات بحدود 25% منذ بداية الأزمة في أيلول إلى الآن»، على ما تؤكد سلمى عاصي، رئيسة تجمع مستوردي المستلزمات الطبية. بالأرقام «استورد القطاع ما قيمته 52 مليون دولار من أصل 200 مليون دولار العام الماضي». لذلك، «الوضع مزرٍ»، تقول عاصي، متحدثة عن مستلزمات كثيرة باتت تخضع للتقنين وأخرى مقطوعة في انتظار إتمام التحويلات، «ومنها مثلاً الوصلة التي توصل الدواء إلى جسم المريض». اليوم، «وُقّعت الحوالة من أجل هذا المستلزم، لكن في المقابل قد ينقطع مستلزم آخر». تقول عاصي «عم نلعب غميضة»، وهو تعبير قريب من آخر قاله طبيب أمراض قلبية: «نتنقّل من دواء إلى آخر وكأننا نلعب جمباز».
لكل هذه الأسباب، طلبت لجنة الصحة النيابية من وزير الصحة، حمد حسن، تحديد موعد مع اللجنة الوزارية المعنيّة بالقطاع الصحي للبحث معها في إعداد خطة طوارئ لثلاثة أو 6 أشهر لمواجهة الأزمة. لم يعد طموح اللجنة اليوم إعداد إستراتيجية «إنما خطة طوارئ عاجلة»، يكون في مقدمها البحث في إمكان دعم قطاعات الصحة، من مستلزمات وأدوية وغيرها، مئة في المئة.