المجتمع المتوحّش: حين يصحّح الاقتصاد اللبناني نفسه بنفسه

يمرّ السؤال كثيرًا على ألسنة بعض خبراء الشاشة اللبنانيين، من الذين باتوا يُعرفون اليوم بالاقتصاديين الجُدد: ما أهميّة خطّة التعافي المالي، ورزمة الإصلاحات التي وضعت على أساسها في تفاهم لبنان مع صندوق النقد، طالما أنّ الاقتصاد بدأ بتصحيح نفسه بنفسه تلقائيًّا؟

وقبل السؤال أو بعده، لا ينسى هؤلاء أن يمرّروا بعض المشاهدات التي تؤكّد صحّة سؤالهم: المطاعم الممتلئة، وعودة معدلات الاستهلاك للارتفاع بسرعة، وأسعار السوق التي ركنت إلى الدولرة التامّة، كقاعدة تعالج أزمات انقطاع السلع الأساسيّة، وتصريح ما لحاكم المصرف المركزي أو رئيس الحكومة يشير إلى أنّ اقتصاد لبنان نما في العام 2022 بنسبة 2%.

سؤال ملتبس.. ومهم

قد يبدو السؤال سخيفًا للوهلة الأولى، خصوصًا أن من يطرحه يعبّر عن مصالح ملتبسة وشائكة، وعن حسابات معروفة الوجهة والعنوان. هي نفسها المصالح المتداخلة ما بين النخبة الماليّة والمنظومة السياسيّة، التي حالت طوال ثلاث سنوات دون الشروع بتطبيق أي خطّة شاملة للتعافي المالي، ودون التنفيذ الجدّي لأي شرط من شروط التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد.

هي المصالح التي لا تريد توزيع معلن وصريح للخسائر المصرفيّة، حرصًا على ملكيّة ورساميل أصحاب المصارف. وهي المصالح التي عارضت الكابيتال كونترول والرفع الجدّي للسريّة المصرفيّة وتدقيق ميزانيّات القطاع المالي، وغيرها من شروط الحل الأساسيّة. هي المصالح التي ترفض الخطّة المعلنة للحل الشامل، لحساب خطّة مضمرة تعيد توزيع خسائر الانهيار بتعميم من هنا وقرار من هناك.

لا يوجد أي شك في نوايا من يطرح السؤال وخلفيته، حين يكون الهدف من السؤال –بهذا الشكل الملتبس- التقليل من شأن أو أهميّة الخطّة الشاملة، أو الدفاع عن مصالح من لا يريد الحل الشامل. ومع ذلك، لا يوجد أي سخافة في البحث عن إجابة شافية، بعد طرح السؤال بصيغة أخرى: ماذا سيجري حين نترك الاقتصاد يصحح نفسه بنفسه؟ ما نوع المجتمع الذي سينتج عن تصحيح من هذا النوع، وأي حياة سيعيشها المقيمون فيه؟ في خلاصة الأمر، يمكن اختصار كل هذا البحث بسؤال واحد: من سيدفع ثمن هذا النوع من التصحيح؟

أهميّة البحث عن الإجابة هنا، تنطلق من أنّ سيناريو التصحيح الفوضوي، المتفلّت من أي خطّة رسميّة للحل، بات أمرًا واقعًا، فيما يبدو أن أقطاب الحكم سلّموا بإحالة الخطّة المتفق عليها مع صندوق النقد إلى التقاعد. ولذلك، بات السؤال عن كلفة ونوعيّة المسار الذي تسير نحوه البلاد، ضرورة لا يمكن تجاهلها في هذه المرحلة بالتحديد.

وفي الوقت نفسه، وباستثناء خرافة النمو بنسبة 2% العام الماضي، يمكن القول أن المشاهدات التي يتحدّث عنها أصحاب هذه النظريّة هي مشاهدات حقيقيّة، ما يطرح السؤال عن الجانب الآخر من هذه الصورة، وما يخفيه هذا التصحيح القاسي والعشوائي من أكلاف يدفعها المجتمع اليوم.

تعميق الفرز المجتمعي والتفاوتات الطبقيّة

في ظل الفوضى النقديّة التي تعيشها البلاد، فرزت الأزمةُ المجتمعَ اللبناني إلى ثلاث فئات مختلفة. الفئة الأولى، تتمثّل في حلقة ضيّقة ومحدودة من المقيمين المستفيدين من أجور مدولرة، ومنهم الموظفين في المؤسسات غير الحكوميّة، وما تبقى من فروع لشركات أجنبيّة، وبعض من يمارسون الخدمات الاستشاريّة. هذه الفئة الصغيرة، تمكنت بحكم طبيعة وظائفها من تخطّي آثار الأزمة النقديّة، طالما أن قيمة الأجور التي تستفيد منها تتأقلم بشكل تلقائي مع أي تدهور في سعر صرف العملة المحليّة.

الفئة الثانية، قوامها أصحاب المهن التي تمكنهم من مواءمة مداخيلهم مع تدهور سعر الصرف، وإن بشكل محدود مقارنة بسرعة انخفاض قيمة العملة المحليّة. وهذه الفئة، تتكوّن بشكل أساسي من أصحاب المهن الحرّة ومالكي المؤسسات الصغيرة والمحدودة الحجم، الذين يملكون بعض المرونة في تحديد قيمة مداخيلهم. ورغم ذلك، عانت هذه الفئة من تراجع قيمة مداخيلها، أوّلًا نتيجة تراجع القدرة الشرائيّة لسائر المقيمين، وتراجع الطلب على خدماتها وسلعها، وثانيًا لعدم قدرتها على رفع مداخيلها بنسبة انخفاض قيمة الليرة في السوق الموازية.

أمّا الفئة الثالثة، والتي تمثّل الغالبيّة الساحقة من المقيمين، فتتكون من أصحاب المداخيل المحدودة، التي لا تملك أي مرونة في تحديد قيمة أجرها، ومنها موظفو القطاع العام والعاملون في الشركات المتوسّطة والصغرى والعاملون في القطاع غير المنظّم (مع الإشارة إلى أن نسبة العمالة السريحة والمياومة شهدت ارتفاعًا كبيرًا بعد حصول الأزمة). ورغم استفادة شريحة من هذه الفئة من تحويلات ومساعدات المغتربين، إلا أنّ هذه الواقع لا يغيّر كثيرًا في محدوديّة قدرتها على التأقلم مع التراجع في قيمة أجورها.

أمام هذا الواقع، من الطبيعي أن تشهد بعض أسواق ومناطق العاصمة حركة تجاريّة تدفع للتفاؤل، نتيجة وجود بعض الشرائح الاجتماعيّة القادرة على الإنفاق في ظل الأزمة، إلا أنّ حجم ونطاق هذا النشاط الاقتصادي مازال محدودًا للغاية قياسًا بمرحلة ما قبل الأزمة. إلا أنّ أهم ما في الموضوع هنا، هو نوعيّة الفرز المجتمعي الذي أنتجته الأزمة النقديّة، والتفاوتات في قيمة الدخل ونوعيّة الحياة التي تستفيد منها كل من هذه الشرائح الاجتماعيّة. ومع كل موجة من موجات الهبوط في قيمة العملة المحليّة، من الطبيعي أن يتكرّس هذا الفرز المجتمعي بأشكال قاسية على الفئات الأكثر هشاشة.

من زاوية هذا الفرز المجتمعي وتنامي الفروقات الطبقيّة، يمكن فهم إحصاءات المؤسسة الدوليّة للمعلومات، التي أشارت إلى ارتفاع نسبة الأسر الفقيرة من 25% عام 2010، إلى أكثر من 60% بعد الانهيار، في مقابل تقلّص الطبقة الوسطى بين الفترتين من 70% إلى 35%، فيما ظلّت نسبة الأثرياء ثابتة عند حدود 5%.

شبكات الحماية الاجتماعيّة الغائبة والاستثمار المعدوم

كما هو معلوم، ومع تقلّص قيمة واردات الميزانيّة العامّة، تقلّص حجم هذه الميزانيّة اليوم إلى أقل من 5% من حجمها قبل الانهيار (وفقًا لقانون ميزانيّة العام 2022). وتقلّص حجم الميزانيّة على هذا النحو، في ظل تنامي الفرز الطبقي الذي أشرنا إليه، سيعني بشكل طبيعي تغييب دور شبكات الحماية الاجتماعيّة بشكل تام، في الوقت الذي بات فيه المجتمع أحوج ما يكون إلى هذا الدور الذي يفترض أن تقوم به الدولة. وحين نتحدّث عن تغييب شبكات الحماية الاجتماعيّة، فذلك يشمل أبسط الخدمات البديهيّة، بما فيها نوعيّة التعليم الرسمي المدرسي والجامعي والطبابة الحكوميّة والمساعدات الذي كان يفترض أن تحل مكان دعم الاستيراد بعد رفعه.

كما سيعني هذا الواقع تغييب دور الاستثمار الحكومي، الذي تحتاجه القطاعات الاقتصادية للنهوض ببنيتها التحتيّة، بما فيها تلك التي تقدّم الخدمات العامّة كالكهرباء والمياه والصرف الصحّي. ومع غياب استثمارات القطاع الخاص، نتيجة الانهيار نفسه، ستكون النتيجة استمرار وتطبيع التدهور الذي تشهده جميع هذه المرافق العامّة.

في ظل واقع كهذا، تصبح الفئة الناجية الوحيدة هي –مجددًا- تلك القادرة على التأقلم مع واقع من هذا النوع، أي الفئة القادرة على الإنفاق لتأمين الكهرباء عبر شراء تجهيزات الطاقة الشمسيّة، أو تغطية كلفة كهرباء المولّد الخاص على مدار الساعة، أو تأمين المياه بشكل منتظم من القطاع الخاص.

ومرّة جديد، تتفاوت أكثر نوعيّة الحياة بين الشرائح الاجتماعيّة المقيمة، وفقًا لنوعيّة وظائفها وأجورها.

العيش بلا قطاع مالي

في بيئة من هذا النوع، سيكتشف المقيمون معنى أن يعيشوا لسنوات بلا قطاع مالي حقيقي، بوجود مصارف تقتصر خدماتها على تلقي “الدولار الطازج” وسحبه. تغييب نشاط القطاع المالي، سيعني فقدان القدرة على تقديم خدمات الائتمان والادخار وتمويل التجارة والتسهيلات التجاريّة. وبيئة ماليّة من هذا النوع، ستكون رصاصة الرحمة التي تجهز على إمكانيّة نهوض أي قطاع اقتصادي في المستقبل، مهما كان نوعه. وكما هو الحال اليوم، ستستمر عزلة لبنان الماليّة عن النظام المالي العالمي، في ظل خشية جميع المؤسسات الماليّة المرموقة من التعامل مع اقتصاد نقدي، يمثّل جنّة لكل أشكال أنشطة تبييض الأموال.

ما سيحصل إذا تركنا الاقتصاد يصحح نفسه بنفسه؟ سيتمكّن من فعل ذلك بلا شك، وهو شرع بالقيام بذلك على مدى السنوات الثلاث الماضية. لا يحتاج الأمر إلى خبير ليخبرنا ذلك. لكن الأهم هنا هو السؤال عن الكلفة المجتمعيّة التي ستترتّب على ذلك، وعن نوعيّة توزيع الخسائر التي سيقودنا إليها تصحيح من هذا النوع. وإذا كان تغييب دور الدولة، في مجال الرعاية الاجتماعيّة، مأساة في أي اقتصاد، فتغييبه يصبح جريمة في حال انهيار كالذي يعيشه لبنان. لكل هذه الأسباب، على من يطرح اليوم “التصحيح التلقائي” كبديل ممكن للخطة الشاملة، أن يعرف نوعيّة الخراب الذي يدعونا إليه، مقابل حماية مصالح الحلقة الضيّقة المتضرّرة من مسار التصحيح المنظّم.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالأمن المائي المهدَّد: عام الصهاريج والتلوّث والمشاريع المشبوهة
المقالة القادمةفياض: ما سُمي بالوثيقة لا يتعدّى كونه كتابا قديما تم ارساله مجدداً لتسيير شؤون المواطنين