قصة الدولار الأميركي في لبنان باتت فصلاً من تاريخه. المشكلة لا يمكن تركها لمن يريد تعقيد الأمور حتى يجعل المسؤولية تضيع. المشكلة يمكن اختصارها، تجاوزاً، بأن لبنان أنفق أكثر مما أنتج. وبعض اللبنانيين يتذرّع بالاقتصاد الحر حتى يقوم بكل شيء من دون رقابة، وبالتالي يمنح لنفسه حق الاستدانة بما يفوق قدرته على الإنتاج، وبالتالي على سداد الدين. وفي نهاية الأمر، يقع حدث إقليمي كبير، ينعكس كساداً وتعطّلاً لدورة الاقتصاد في البلاد، بعدما يكون النظام المالي – الاقتصادي – السياسي قد اهتز. والنتيجة تكون على شكل مظاهر عدة، أبرزها اختفاء الدولار من الأسواق. ساعتها، يهرع المتلذّذون بنظام الاستهلاك العشوائي الى البحث عنه، فيدخلون سوق المرابين والمضاربين والقليلي الأخلاق، فتكون النتيجة انهياراً في قدراتهم الشرائية وتراجعاً في قوة عملتهم الوطنية، ويعود تنصيب الدولار سيداً فوق الجميع. ويبقى اللبنانيون في حالة انتظار، حتى يتقرر في الإقليم أو العالم دور جديد لهم. ساعتئذ، وبسحر ساحر، يعود تدفق العملات الصعبة، ويعود الدولار الى الجيوب والأسواق، ويغرق الجميع في لعبة الحب على طريقة الحلم اللبناني… الى أن تأتي لحظة مخالفة فتقع الواقعة، تماماً كما هو حالنا في هذه الفترة.
الفكرة التي يتهرب القابضون على النظام من الإقرار بها، هي أن الحروب والأزمات الداخلية الكبرى لم تكن سبباً وحيداً أو رئيسياً في أزمة الدولار. بل ثمّة موقع ودور يُرادان للبنان. فإما يقبلهما وإما يرفضهما أو يعاندهما. وخلال مفاوضات إقناعه، يتم اللجوء الى الدولار بوصفه العصا والجزرة في آن معاً. وهذا هو حالنا اليوم. سابقاً، بين عامَي 1992 و2006، شنّت اسرائيل حروباً كبيرة على لبنان، وقُتِل رفيق الحريري وأُخرجت سوريا ثم شنّ العدو حرباً قاسية ثم استأنف اللبنانيون صراعاتهم، لكن الدولار لم يتصدّر المشهد، ولم يكن أحد يشكو انهياره. وبينما يتغنّى جماعة الربا بحاكم مصرف لبنان باعتباره رمز الاستقرار النقدي، يهربون من حقيقة أن المشكلة بدأت عندما فقدَ لبنان قدرته على الاستمرار في المراباة، وعندما لم يعد في استطاعته سداد ديونه، وعندما فقد قدرته على تلبية طلب الغرب وأنصار اسرائيل، وعندما بات في موقع مَن يصطدم مع إرادة الاستعمار الأميركي في المنطقة. وبعد فشل كل الحروب السياسية والعسكرية، لجأ الأميركيون الى ما يعتقدون أنه السلاح الأنجع، ألا وهو الخنق اقتصادياً ومالياً. فكان القرار بحجب الدولارات، واندلاع الأزمة.
الانتفاضة الشعبية التي قامت في 17 تشرين الماضي، لم يكن ممكناً تحولها الى حركة احتجاج لبنانية عامة، لكون القوى القادرة على التحكّم بها أقوى من عصب الجمهور نفسه. ما يرفض اللبنانيون كما الفاعلون في الإقليم والعالم الإقرار به، هو أن الجماعات اللبنانية، سياسية كانت أو طائفية أو اقتصادية أو دينية، لا تزال تشكل المظلة الاجتماعية للشعوب اللبنانية. وهي التي توفر نوعاً من الأمان في ظل غياب دولة مركزية عادلة. وبالتالي، فإن الاحتجاجات لم يكن لها أن تنتج أكثر من حكومة حسان دياب. في هذه الحالة، لا نفع للنوايا والأفكار والطموحات. في هذه الحالة ما ينفع هو قراءة موازين القوى والبحث عن أدوات التغيير. وكل معاندة أو مكابرة، تنتهي على شكل تعليقات باتت مملّة على صفحات التواصل الاجتماعي.
جاءت حكومة دياب تعبيراً عن ذروة المرحلة الأولى من الأزمة الجديدة. لكن الأزمة تعمّقت أكثر، ليس بفعل ارتفاع منسوب الضغوط الأميركية على لبنان وحدها، بل أيضاً بفعل غياب الإرادة بتغيير كل نمط عيش اللبنانيين: الاستهلاك كما الاقتصاد كما النظام. وكلما تأخر لك، عبرنا في الأزمة من مرحلة الى مرحلة. واليوم، دخلنا المرحلة الثانية من الأزمة. وسببها مزدوج: الأول قرار أميركي برفع مستوى الضغوط من خلال برامج عقوبات وحصار أقسى؛ والثاني، فشل حسان دياب وحكومته في إدخال تعديلات جدية على جدول الأعمال وآلية العمل. وكانت ذروة الفشل الحكومي، العجز عن وضع خطة لمعالجة مشكلات بارزة تتعلق بالطاقة والإدارة المالية، والغرق في قوانين اللعبة في ملف التعيينات في إدارات الدولة. وفوق ذلك الدخول مجدداً في وهم الدعم الخارجي، من خلال الركض خلف صندوق النقد الدولي، وكأن الأخير مؤسسة خيرية أو مصرف تجاري يعمل بمعزل عمّا يقرره أصحاب القرار في الغرب. ولذلك، كان لا بد من ذروة جديدة تُدخل البلاد في المرحلة الثانية من الأزمة.
ليس معروفاً من أقنع هذه الحكومة بأن التدخل في نمط استهلاك الجمهور عمل عدائي في ظل الأزمة المالية
من جانب الشارع، لينتظر الجميع كل أشكال الجنون والفوضى. ومتى قدر الناس الغاضبون على فعل ما يريدون فسوف يقدمون. ومتى تعرضوا للقمع أو الحصار فسيتراجعون. لكن القاعدة الاجتماعية المعترضة على كل شيء، تتسع سريعاً وتشمل مجموعات كبيرة من الشعوب اللبنانية. أضف اليها، الكثافة السكانية في لبنان، حيث يعيش في لبنان اليوم نحو سبعة ملايين شخص، ثلثهم على الأقل من غير اللبنانيين. ويعيشون على الإعانات والصدقات التي تهطل عليهم مباشرة أو من خلال اللبنانيين. وهي إعانات تراجعت الى النصف، ويمكن أن تتارجع أكثر. ورغم أن أزمة الإنفاق عند هؤلاء ستتفاقم، سيبقى هؤلاء هدفاً لدى كثير من اللبنانيين. سنشهد جيلاً من الرعاع يفترض أن غير اللبنانيين يأخذون من دربه، وربما نشهد موجات عنف عنصرية أكثر من السابق. والمرحلة الثانية من الأزمة، تشي بدرجة أعلى من الانفلات الأمني. وجريمة السرقة ستنتشر بطريقة مختلفة. حتى اليوم، تشير معلومات الأجهزة الأمنية الى أن الغالبية الساحقة من الذين يتم توقيفهم بجرم السرقة، هم من أصحاب السوابق، وأن هذا النادي لم يشهد تضخماً كبيراً بعد. لكن ما يلفت الأجهزة أن التحقيقات تُظهر أن سارقين كثراً باتوا يعمدون الى فتح البرادات في المنازل وإلى الذهاب مباشرة نحو رفوف الأطعمة في المتاجر، وأنهم يقومون بأعمال نشل تكون غلتها عشرات ألوف الليرات. وبالنسبة الى المحققين، فهذه إشارة سلبية تحتمل ارتفاع منسوب الجرائم على خلفية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يُنذر بعواقب كبيرة، متى تجاوز السارقون حالات الانفعال الفردية، ووجدوا من يديرهم في مجموعات منظمة على طريقة المافيا. وهذا ما يقود عملياً الى «وظيفة جديدة» تدرّ دخلاً غير شرعي، لكنه دخل مطلوب، وثمنه الانضواء في عصابات قد تجد من يحميها من المرجعيات على أنواعها.
اليوم، سمعنا الحكومة تتحدث عن قرارات وإجراءات تعكس توتر القائمين عليها. وهو توتر يرجع الى فشل القدرة على ضبط عمل الإدارت العامة. وليس متوقعاً أن يتراجع هذا الضغط في ظل انبطاح الحكومة أمام المرجعيات التقليدية في الحكم. لكن اللافت، هو أن الحكومة لم تقترب بعد، أو هي تخاف، من ملامسة ما يخصّ شكل عيش الناس. ليس معروفاً من أقنع هذه الحكومة بأن التدخل في نمط استهلاك الجمهور عمل عدائي في ظل الأزمة المالية. وإذا لم تعِ هذه الحكومة بأن مهمتها منع استيراد نصف ما كان يستَورَد، حتى لو توافرت العملة، فإن خروج الدولارات من لبنان سيظل مستمراً. وإذا لم تجبر مصرف لبنان وبقية المصارف، على فتح اعتمادات لتشغيل الصناعات المحلية على ضعفها، فلن يكون هناك إنتاج محلي يشكل معبراً إلزامياً نحو تطوير أعمال المواطنين ومداخيلهم. أما الحائرون والغاضبون والراغبون بالتنازل عن كل شي جميل في هذا البلد، من أجل علبة «نوتيلا»، فعليهم تذكر أن ما يقومون به، ليس سوى طلب جديد لاستدانة جديدة. وهي استدانة لأموال ستعود لتخرج من البلاد لإشباع رغبة لبنانيين يعتقدون أنهم شعب الله المختار.
تغيير الحكومة، أو تعديل مقاعد اللاعبين الكبار من حول الطاولة، ليس متاحاً بسلاسة الآن، لأن هذه الحكومة باتت مع الأسف، تخشى على مواقع شاغلي مناصبها، أكثر من خشيتها على البلاد…
ليلطف الله بنا، لتمر هذه المرحلة من دون دماء!