نشر المركز اللبناني للدراسات “LCPS” تقريراً بعنوان: «هيكلة القطاع الصحي في لبنان في ظل الأزمة الإقتصادية»، وتناول التقرير واقع القطاع، وأبرز التحديات التي يواجهها، واقترح خريطة طريق للنهوض بالقطاع. وجاء في التقرير التالي: يعاني أكثر من نصف سكان لبنان اليوم من فقدان خدمات التغطية الصحية بالكامل، ومحدودية وصولهم إلى خدمات صحية شاملة وذات أسعار معقولة. وارتفعت قيمة نفقاتهم الخاصة على الصحة إلى أكثر من 85% من مجموع دخلهم. شكلت الأزمة الإقتصادية ضربة قاسية، إذ زادت من أعباء القطاع الصحي، وأثرت سلباً على قدرة الصناديق العامة على تقديم حماية إجتماعية وخدمات تغطية صحية مناسبة، حيث أصبحت التغطية الفعلية ضئيلة جداً، جرّاء إنهيار العملة. واليوم، أصبح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي غير قادر على تغطية تكاليف الخدمات الصحية سوى بنسبة 10% فقط، ليدفع المواطن القيمة المتبقية، الأمر الذي دفع بعض المواطنين إلى اللجوء إلى شركات التأمين الخاصة، أو تحمّل التكاليف من مدخولهم الخاص، حيث ارتفعت نسبة التحمل من 33.1% في عام 2018 إلى 85% في عام 2022. كما وأثرت هذه الأزمة بشدة على إمكانات الوصول إلى الدواء، وشهد السوق انخفاضاً حادّاً بمخزون الدواء، بنسبة 50% منذ بدء الأزمة، ما حرم أكثر من 70% من اللبنانيين من الوصول إلى الأدوية الأساسية. إن الحالة البائسة تهدّد قدرة آلاف اللبنانيين من الوصول إلى الخدمات الصحية، الأمر الذي يدفع إلى إعادة النظر في نظام القطاع الصحي. يعالج هذا المقال أبرز التحديات التي يواجهها القطاع الصحي، ويقترح حلولاً ملموسة وقابلة للتنفيذ، لتطبيق الإصلاحات في هذا القطاع.
واقع مستوى الحوكمة
جاهدت وزارة الصّحة من أجل تنظيم القطاع لعقود عديدة، ولكنها عانت من الهيكلة التنظيمية الضعيفة، والنقص الكبير في عدد الموظفين الكفوئين، كما والبنية التحتية الركيكة، ما أضعف قدرتها على تأدية وظائفها الأساسية. وأدى إعتماد آليات مساءلة ضعيفة إلى انتشار الفساد في القطاع، وتفاقمه تحديداً خلال الأزمة. وبالتالي، عانت الحكومة من السيطرة على مبيعات الأدوية المزورة وعمليات توزيعها وتهريبها، خاصةً أدوية السرطان، إلى ذلك نتج عن إنعدام التنسيق بين عناصر التمويل ومقدمي الخدمات، إتباع آليات عمل غير مترابطة. أضف إلى ذلك غياب الإرادة السياسية، التي شكلت عائقاً كبيراً صعّب تعزيز القطاع الصحي.
ويجدر ذكر أنه تم سابقاً تقديم اقتراح قانون لإنشاء نظام التغطية الصحية الشاملة. واليوم، تم تقديم مسودة منقحة للقانون وهي قيد المراجعة من قبل لجنة الصحّة النيابيّة. وعرقلت جميع محاولات التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية في ظل إنعدام وجود نظرة مشتركة بين الجهات المعنية في القطاع، كوزارة الصحة العامة وصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. وبغض النظر عن خطورة هذه المشكلة، ما زال لبنان يفتقر إلى خطة وطنية شاملة وواضحة لمعالجة مشاكل التوظيف، والتدريب، والحفاظ على الموارد البشرية في القطاع.
واقع مستوى التمويل
تسبب نقص الرقابة العامة بتخصيص الموارد بطريقة غير كفوءة وبهيكلة ميزانية تفتقر إلى مؤشرات الآداء، وهذا أمر واضح في إنفاقات الرعاية الصحية، حيث تحصل الخدمات الصحية العامة على موارد محدودة، وخاصةً خدمات الرعاية الأولية والوقائية، في حين يتم الإنفاق بنسبة عالية على الرعاية الإستشفائية.
إن تجزؤ صناديق التأمين او الضمان، بالتزامن مع قلة التنسيق بين الجهات المعنية بتمويل القطاع وتقديم الخدمات، أثر بشكل كبير على النظام القطاع الصحي. فعلى سبيل المثال، واجه الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، وهو أكبر صندوق عام، تحديات عديدة نتيجةً لعمليات محاسبة ضعيفة، وسوء التصريح عن الرواتب، وصعوبات في توفير التّغطية.
وأدى إنخفاض قيمة العملة الوطنية إلى زيادة تكاليف الرعاية الطبية والتضخم في الأسعار، ما خلق تحديات لشركات التأمين وصعّب الحصول على تأمين صحي خاص، هذا وألزمت شركات التأمين الخاصة عملاءها بالدفع بالدولار، الأمر الذي حد من تقديم الخدمات وانحصرت بالطبقات الإجتماعية ذات الدخل العالي فقط، في حين تواصل صناديق التأمين العامة قبول الإشتراكات بالليرة اللبنانية، التي تتدهور قيمتها بسرعة، مما يحد من تغطية تكاليفهم الصحية.
واقع مستوى الآداء
يسيطر القطاع العام على القطاع الصحي، وتحديداً على المستشفيات والرعاية العلاجية. ولمعالجة هذه المشكلة، تعاونت وزارة الصحة مع منظمات غير حكومية ومؤسسات خاصة، من أجل توسيع نطاق مراكز الرعاية الصحية الأولية، ليصل عددها إلى 245 مركزاً في عام 2021. وبالرغم من هذه المحاولات، ما زالت هيمنة القطاع العام تحدّ من فعالية هذه المراكز في التّحكّم بتنظيم الوصول إلى مستويات أعلى من الرعاية.
عانى لبنان تاريخياً من نقص في الموارد البشرية في القطاع الصحي، بما فيها الممرضون وممارسو طب الأسرة. وذلك بسبب غياب الحوافز المالية وقلة البرامج ذات الصلة، الأمر الذي دفعهم على الهجرة بحثاً عن فرص أفضل.
وفي ما خص إمدادات الأدوية، فلم يتم دعم الصناعة المحلية للدواء في لبنان، فهناك 12 صنفاً محلياً فقط، وإن تفضيل الأدوية الأصلية على الأدوية الجنيسنة (الجينيريك) والإعتماد على الأدوية المستوردة باهظة الثمن، تسبب بفقدان الأدوية وارتفاع أسعارها خلال الأزمة بشكل جنوني، حيث لم يعد باستطاعة المواطنين تحمّل تكاليفها.
1 – إعداد قانون شامل
للتغلب على التحديات الحالية التي يواجهها القطاع، على الحكومة تطبيق إصلاحات فعالة، ترتكز على التغطية الصحية الشاملة. ولتحقيق ذلك، يجب مراجعة القانون المقترح الحالي لضمان شموليته وعدم وجود أي ثغرة قد تؤثر على تطبيقه، كما يجب أن ينص القانون أيضاً على صياغة حزم التأمين الصحي الأساسي بهدف تغطية الخدمات الأساسية.
2 – تعزيز الحوكمة والرقابة
إن تعزيز آليات المساءلة والشفافية أمر ضروري من أجل تطبيق الإصلاحات، وذلك عبر إنشاء لجنة مستقلة من إخصائيين في القطاع، من شأنها تعزيز آليات المساءلة وضمانة الحوكمة السليمة. وضمان تنفيذ تشريعات مكافحة الفساد، مثل القانون رقم 189 لسنة 2020، قانون التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع.
على الرغم من الدور الحيوي الذي يلعبه القطاع الخاص في نظام القطاع الصحي، يبقى من الضروري أيضاً التحكم في انتشاره، كما يجب إنشاء آليات تستفيد من إمكانات القطاع الخاص، وتعزز في الوقت نفسه الأطر التنظيمية كما وأطر الرصد أيضاً التي وضعتها الحكومة، وينطوي على ذلك إنشاء قواعد ومعايير واضحة لمقدمي خدمات الرعاية الصحية، مع ضمان ترخيص المرافق الصحية وتفقّدها بانتظام.
3 – تدابير لنظام مستدام
يجب تطبيق عدّة تدابير لمعالجة التحديات المالية وتعزيز الإستدامة. كخطوة أولى، يمكن توحيد صناديق التأمين الطبي في لبنان وإدخال حزم وتعريفات أساسية مشتركة. فمن شأن هذه الخطوة الحد من أوجه عدم المساواة في تغطية الرعاية الصحية. وهذا سيتطلب تطبيق إصلاحات طال إنتظارها حول مشاريع التمويل والتعويض لجميع الصناديق، مثل صندوق الضمان الاجتماعي لضمان المرض والأمومة، بهدف تعزيز فعاليته. على سبيل المثال، يجب إتباع تدابير لإحتواء التكاليف من أجل الحد من هدر الموارد. بالإضافة إلى ذلك، قد يساهم إعتماد طرق الشراء القائمة على القيمة، في ترشيد الإنفاق على الصحة وضمان تخصيص الموارد الصحية بشكل فعال، ليتلقى المرضى أكثر العلاجات فائدة. ويمكن للحكومة الإستفادة من خبرات الشركات المتعددة الجنسية لتنفيذ طرق الشراء القائمة على القيمة ورقمنة المعلومات في القطاع الصحي، من أجل تحسين تخصيص الموارد وزيادة الكفاءة. على المدى القصير، يجب تخصيص الموارد المالية (الخاصة بالدواء) مباشرة إلى المرضى غير القادرين على تحمّل تكاليف الأدوية الأساسية، بدلاً من الإعتماد بشكل كامل على وزارة الصحة العامة لدعم بعض الأدوية المختارة. يمكن تحقيق ذلك من خلال تنفيذ نظام تغطية متدرج، حيث يتم تقديم المساعدة المالية بناءً على احتياجات المريض وأهمية الأدوية. تضمن هذه الطريقة تخصيص الموارد المحدودة بفعالية من خلال مساعدة المرضى الأكثر إحتياجاً. على سبيل المثال، يمكن تنفيذ بطاقة دوائية وطنية لجميع المواطنين اللبنانيين بدلاً من مواصلة دعم الأدوية، وذلك لتسهيل الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية. علاوة على ذلك، يجب أيضاً اعتماد آليات تسعير صارمة للحد من التقلبات في تكلفة الأدوية. ويجب تأمين مصادر إيرادات إضافية للقطاع من أجل تمويله، مثل فرض ضرائب على المنتجات المضرّة للصحّة.
4 – نظام للرعاية الأولية
من الضروري إعادة توجيه النظام الصحي نحو الرعاية الوقائية والرعاية الأولية وتوسيع نطاق الخدمات لتلبية احتياجات الصحة المتنامية. وسيتطلّب ذلك تعبئة الدعم السياسي للتركيز على الإستثمار في مراكز الرعاية الصحية الأولية ودعمها، مما قد يساهم في دعم نظام قوي يقلل العبء على النظام الصحي ويخفض التكاليف. أيضاً، يمكن تعزيز القطاع الصحي، من خلال نشر التوعية وعادات المواطنين في اللجوء إلى الخدمات الصحية، عبر حملات إعلانية مستهدفة تولي الأهميّة للرعاية الوقائية بدلاً من الرعاية العلاجية.
5 – صناعة الجينيريك
يجدر الإستثمار في صناعة أدوية الجينيريك الأساسية المحلية، من أجل تخفيض الاستيراد وضمان توفر الأدوية بأسعار معقولة، كما يمكن تصديق الشركات المصنعة المحلية من قبل منظمات دولية موثوقة مثل منظمة الصحة العالمية (WHO) لضمان جودة الأدوية المنتجة محلياً وزيادة ثقة المواطنين فيها.
6 – تأثير تعزيز التنسيق
من أجل تحسين التنسيق بين كافةّ الجهات المعنية التي تقدم خدمات صحية في قطاع الشؤون الإنسانية، من الضروري إنشاء منصة مشتركة للجهات الفاعلة في المجال الإنساني والمنظمات غير الحكومية. في السياق نفسه، يمكن إنشاء ترتيبات في الحوكمة تحفز التخطيط المشترك وتعزيز الإجراءات في عدة قطاعات، لزيادة الفعالية، على سبيل المثال، التعاون مع الأوساط الأكاديمية لإضفاء الطابع المؤسسي على البيانات والأدلة في عملية صنع القرار في الحكومة وغيرها من المؤسسات التي تؤثر على النظام الصحي.
الحلو: المشكلة الأساسية تكمن في التمويل
على ضوء هذا التقرير تواصلت صحيفة «نداء الوطن» مع مدير العناية الطبية في وزارة الصحة الدكتور جوزيف الحلو، للوقوف على أراء المعنيين بواقع القطاع الصحي.
يؤكد الحلو أن «القطاع الصحي ليس بأفضل حالته»، إلّا أنه لا «يعتبره سيئاً جداً»، مشدداً على أنه «وبالرغم من الوضع المالي السيئ الذي نعيشه، فلا زال واقع القطاع الصحي مقبولاً لغاية اليوم». ويذكر الحلو هنا بـ»الضربة التي تلقاها القطاع الصحي، بسبب هجرة عدد كبير من الأطباء والجسم التمريضي، نتيجة تردي الأوضاع الإقتصادية».
ويحدد المشكلة الأساسية التي يعاني منها القطاع الصحي اليوم وهي «النقص في التمويل»، حيث يلفت إلى أن «موازنة الصناديق الضامنة الرسمية أي تلك التي تتعاطى مع الدولة هي عاطلة جداً، فموازنة وزارة الصحة الإستشفائية كانت منذ 3 أعوام 330 مليون دولار، وأما اليوم فقد أصبحت بحدود الـ 20 مليون دولار».
كما يتطرق الحلو إلى «معضلة زيادة عدد المواطنين الذين يتلقون العناية الطبية على نفقة وزارة الصحة، حيث كان عددهم يبلغ منذ 3 سنوات ما بين 47 إلى 48%، وأما اليوم فأصبح العدد يقارب الـ 70%، وذلك بسبب إقفال الكثير من المؤسسات، وبالتالي خروج موظفيها من الضمان وأصبحوا يتطببون على نفقة وزارة الصحة»، كما يلفت إلى أنه «يجب أن لا ننسى أن كافة المستلزمات الطبية لم تعد مدعومة، على عكس ما كانت عليه منذ 3 سنوات حيث كان بمعظمها مدعوماً». ورغم كل ذلك، يعتبر الحلو أنه «لا زال بإمكاننا التباهي بمستشفياتنا حكومية كانت أم خاصة».