«المركزي» يذهب أبعد من «FATF»

تحت حجّة تطبيق المعايير الدولية، أو بمعنى آخر، رضوخاً للإملاءات الأميركية، يُشدد مصرف لبنان إجراءاته على التحويلات المالية. فتصبح كلّ عمليّة تحويل روتينية بمنزلة عمليّة عالية المخاطر تستدعي جمع كمّ هائل من المعلومات، وتعبئة ما يزيد على 50 خانة من البيانات.

أخيراً أصدر مصرف لبنان التعميم الأساسي الرقم 3، وهو إجراء يُلزم المؤسّسات غير المصرفية بجمع كمّ واسع من المعلومات الشخصية والمالية عن كل شخص يقوم بعملية نقدية أو تحويل يساوي أو يتجاوز الألف دولار، بما يشمل صورته، الهوية المفصّلة، مصدر الأموال، الغرض من العملية، والوضع المالي، ثم إرسال هذه البيانات إلى مصرف لبنان خلال 48 ساعة. بمعنى آخر، أدخل مصرف لبنان نظام تدقيق موسّع يتعامل مع كل عملية صغيرة كملفّ يتطلّب تعبئة نموذج «اعرف عميلك».

لكن ما إن نقارن التعميم والنموذج المطلوب، بالتوصية 16 الصادرة عن منظمة العمل المالي (FATF)، حتى يتبيّن أن ما يجري تحت هذا العنوان ليس تطبيق المعايير، بل توسيعها إلى درجة تصبح معها الرقابة المحلية أشدّ بكثير مما تفرضه الجهة التي يستشهد بها المصرف المركزي. فالتوصية 16، هي المرجع الأول عالمياً لتنظيم التحويلات الداخلية والعابرة للحدود، وهي تنطلق من مبدأ بسيط: «يجب أن تكون أي حوالة قابلة للتتبّع عند الضرورة». لذا، تكتفي المنظمة بمعلومات محدودة: اسم العميل، رقم حسابه، بعض التفاصيل الأساسية التي تسمح بتحديد هوية المرسِل والمستفيد. لا أكثر. لا تطلب مستندات، ولا تسأل عن الوضع المالي أو العائلي، ولا تلزم المؤسسات بجمع ملف كامل عن حياة الشخص الذي يريد تحويل بضع مئات أو آلاف من الدولارات. ولا تفرض تصويره.

لكن تعميم مصرف لبنان يذهب في اتجاه آخر تماماً. فالعملية المالية هنا تبدأ باستمارة طويلة تتضمّن تفاصيل دقيقة عن صاحب العملية: اسم الأب والأم، الرقم الضريبي، عنوان السكن بتفاصيله، رقم الهاتف، وصورة عن الهوية، وصورة شخصية فورية. ثم يُطلب من العميل أن يشرح مصدر الأموال، وأن يقدّم ما يثبت ذلك، وأن يحدّد الغرض من العملية ومصدر الدخل وطبيعته. هذه المتطلبات ليست جزءاً من التوصية 16، بل تنتمي إلى مستوى أعلى من التدقيق لا يُستخدم عادة إلا في سياقات محددة، أو عند وجود مؤشرات على مخاطر مرتفعة لعملية التحويل، بحسب معايير منظمة العمل المالي.

التعميم لا يكتفي بالتعرّف إلى الشخص الذي ينفّذ العملية، بل يفتح الباب على معلومات إضافية مثل مصادر الدخل الأخرى، وتيرة العمليات المتوقعة، بل حتى وضعه العائلي، وفي حال الشركات: أسماء الشركاء، أصحاب الحق الاقتصادي، والمفوّضين بالتوقيع. كل هذا يُرسل إلى مصرف لبنان خلال «يومي عمل»، رغم أن منظمة العمل المالي نفسها لا تطلب من أي دولة أن تجمع هذه المعلومات مركزياً، بل تشترط فقط أن تُحفظ لدى المؤسسة وأن تكون متاحة عند الضرورة.

عملياً، من توصيات منظمة العمل المالي يمكن الاستنتاج أنها تفترض أن التحويلات هي نشاط اقتصادي طبيعي، وأن المطلوب هو الحدّ الأدنى الذي يسمح بتتبّع الأموال عند الحاجة. أما التعميم اللبناني فكأنه يفترض العكس، بحيث أصبحت كل عملية هي حالة عالية المخاطر تستدعي جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، بغض النظر عمّا إذا كان هناك أي مؤشر على سلوك مشبوه. لذلك يصبح تحويل ألف دولار عملية تجرّ خلفها ملفاً يتجاوز الخمسين خانة من البيانات.

الفكرة هي أن التشدّد في التدقيق لا يعني بالضرورة قدرة رقابية أوسع. فالممارسات الدولية تظهر أن الإفراط في جمع البيانات لا يؤدي تلقائياً إلى تحسين الرقابة، إذ تقول منظمة العمل المالي في تقرير لها في 2013 تحت عنوان «مكافحة غسيل الأموال والشمول المالي»: «قد تؤدي المتطلبات المفرطة بالعملاء إلى الإقصاء المالي، حيث يُدفع الأفراد والشركات الصغيرة خارج النظام المالي الرسمي. ينبغي على الدول تجنّب تطبيق تدابير غير متناسبة لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، والتي قد تُؤدّي، من دون قصد، إلى تحويل المعاملات إلى معاملات سرية».

تطبيق التوصية 16 في معظم دول العالم يتمّ بالحدّ الأدنى من المعلومات اللازمة لتتبّع الحوالة، ولا يتجاوز الاسم، رقم الحساب، وبعض بيانات الهوية الأساسية. حتى الدول التي شدّدت رقابتها بعد أحداث كبرى، كالولايات المتحدة بعد 11 أيلول أو الاتحاد الأوروبي بعد هجمات 2015، لم تلجأ إلى طلب «ملف شخصي» كامل لكل تحويل صغير. ففي أوروبا مثلاً، ورغم تشدّد AMLD5 وAMLD6، لا تُطلب صورة شخصية أو بيانات عائلية أو مالية تفصيلية إلا في الحالات عالية المخاطر أو عند فتح حساب مصرفي، بينما تُترك التحويلات العادية لأنظمة مراقبة آلية من دون إثقال العميل بالمستندات.

مع كل ذلك، فإن مصرف لبنان يحاول أن يُثبت لمنظمة العمل المالي أن لبنان ممتثل لتوصياته، ومستعد ليذهب أبعد منها بكثير، وذلك بهدف الخروج من اللائحة الرمادية التي وُضع عليها البلد أخيراً. لكن حتى في مراجعة تجارب الدول المدرجة على اللائحة الرمادية، يظهر بوضوح أنّ إجراءاتها التصحيحية لا تشبه نموذج التضييق اللبناني. فالدول التي تخضع لمتابعة معزّزة من منظمة العمل المالي، مثل باكستان ونيجيريا وتركيا والمغرب، تُطلب منها عادةً معالجة الثغرات في القطاعات العالية المخاطر، وتعزيز قدرات وحدات الإبلاغ المالي، وتطبيق مقاربة مبنية على المخاطر (Risk-Based Approach) بحيث تُشدد الرقابة على المعاملات المشبوهة أو الكبيرة فقط. هذا ما تؤكد عليه تقارير FATF العامة التي تحدد أن المطلوب من الدول هو «إجراءات متناسبة مع درجة المخاطر»، وتتفق معايير FATF نفسها على أن الإجراءات الرقابية يجب أن تُبنَى على مبدأ «التناسب مع درجة المخاطر».

هذا ليس توصيفاً عاماً، بل مبدأ منصوص عليه حرفياً في التوصية الأولى من FATF التي تشترط أن تعتمد الدول «تدابير قائمة على المخاطر تتناسب مع مستوى الخطر المحدّد». وتعيد FATF شرح هذا المبدأ في دليل المقاربة المبنية على المخاطر (Risk-Based Approach Guidance) حيث تؤكد أن «الأنشطة المنخفضة المخاطر لا تحتاج إلى الإجراءات نفسها المفروضة على العمليات الحسّاسة أو الكبيرة».

كذلك لا تُسجّل تقارير المتابعة مع أوضاع البلدان أي حالات تطلب فيها هذه الدول من العملاء تقديم بيانات عائلية أو مالية تفصيلية عند إجراء حوالة بسيطة، ولا أي نظام يلزم المؤسسات بإرسال ملفات العملاء يومياً إلى المصرف المركزي. وبذلك، يصبح التشدد اللبناني استثناءً حتى بين الدول التي تواجه ضغوط منظمة العمل المالي، إذ يتجاوز ما تتطلبه التوصية 16 وما تطبقه الدول الخاضعة للمراقبة الدولية.

مصدرجريدة الأخبار - ماهر سلامة
المادة السابقة7 مليون دولار.. هذا ما انفقته “الأشغال” خلال زيارة البابا
المقالة القادمةتحرير 70 ألف متر مربّع من الأملاك البحرية: الحكومات المتعاقبة متورّطة… وحكومة سلام أيضاً!