يحاول مصرف لبنان لملمة قطاع المصارف المشرذم بعد عام من الفوضى. يستخدم التعاميم كأداة لإعادة تشكيل المشهد المصرفي. ويرسم من خلالها آلية تمكّن المصارف من تحقيق المؤونات والسيولة وصولاً إلى رفع رساميلها.
أشهر قليلة تفصلنا عن انتهاء المهلة التي أعطاها مصرف لبنان للمصارف لتقوم بإتمام مهمة رفع رأس المال. بعدها البقاء “للأقوياء”. أما المصارف “الضعيفة” فسيستحوذ عليها “المركزي” وفقاً لشروطه. فهل ستصمد المصارف أمام عصف المركزي؟ وكيف ستترجم نواياه “الحسنة” في إعادة تفعيل نشاط المصارف في حسابات المودعين؟
رساميل إضافية
“نسبة الزيادة في رأس المال هذه، أي الـ 20 بالمئة عما كانت عليه في نهاية العام 2018، هي المرحلة الأولى، ولكن لن تكون كافية بالنسبة لعدد من المصارف”، يقول أمين عوّاد المدير التنفيذي في مجموعة بنك لبنان والمهجر. تقدر رساميل المصارف حالياً بحوالى 22 مليار دولار. أي أن الزيادة المطلوبة هي 4.5 مليارات دولار. “فبعد ان تنجح المصارف في رفع رأس المال بنسبة 20 بالمئة ستقوم هيئة الرقابة على المصارف بدراسة المحفظة الخاصة بكل مصرف وفق جداول زمنية يحددها المركزي، وبناء عليه فقد يتعين على بعض المصارف رفع رأس المال مجدداً” يقول عواد.
أما المصارف اللبنانية غير القادرة على تحقيق الزيادة المطلوبة في رأس المال في حلول نهاية شباط 2021 سيتعين عليها الخروج من السوق. سيستحوذ المصرف المركزي على تلك المصارف. وبالتالي “سيحمي حقوق المودعين،” وفقاً لتصريحات حاكم مصرف لبنان. وفي هذا السياق يقول جان رياشي، مديرعام FFA Private Bank “إن أموال المودعين في كل المصارف ليست بمأمن، فالإقتطاع من الودائع أو الـ”هيركات” أصبح أمراً واقعاً، وحتى الصندوق السيادي الذي سيعطى للمصرف المركزي للتخفيف من الخسائر لن يكون كافياً لإعادة تكوين الودائع التي خسرت أكثر من 50 بالمئة من قيمتها”. “إنّ تأخر قانون الكابيتال كونترول غير المُبرر يربك المودعين والمصارف على حد سواء،” يضيف رياشي.
خسائر مقلّصة
أوصى المركزي المصارف باحتساب خسائر بنسبة 45 بالمئة على سندات خزينة الحكومة اللبنانية بالعملات الأجنبية أو سندات اليوروبوند التي اكتتبت بها، وبنسبة 1.89 بالمئة على توظيفاتها بالعملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان، على أن تقوم المصارف بتجنيب مخصصات لهذه الخسائر بشكل متدرّج خلال خمس سنوات.”لم يضع مصرف لبنان إحتساب خسائر سندات الخزينة بالليرة البنانية ولكن قد يقوم بذلك في ما بعد” وفقاً لعواد. “وبذلك على القطاع المصرفي اتخاذ مخصصات بقيمة 5 مليارات دولار مقابل الخسائر على اليوروبوند”، إذ تُقدر قيمة إكتتاب القطاع المصرفي في سندات اليوروند بـ 11 مليار دولار.
تكمن الإشكالية الحقيقية في احتساب الخسائر كما قال رياشي.”فإن خسائر اليوروبوند قد تصل إلى 65 بالمئة”. كما اعتبر ان نسبة الخسائر على ودائع المصارف بالعملة الاجنبية تفوق النسبة التي حددها المركزي. “فربما يعوّل المركزي على الصندوق السيادي الممول من عائدات أصول الدولة اللبنانية”.
لا ثقة
من المبكّر القول ما إذا كانت المصارف ستستطيع زيادة رأس المال ضمن المهل الزمنية. “لكن تراجع الثقة في البلاد والجو العام غير المشجع على جذب إستثمارات جديدة في القطاع لن يساعد على ذلك”، يقول نسيب غبريل رئيس قسم البحوث والتحاليل الإقتصادية في مجموعة بنك بيبلوس. فتخلّف الدولة اللبنانية عن دفع إلتزاماتها الخارجية في آذار المنصرم وبالتالي زيادة المخاطر بالنسبة للمستثمرين جعل المصارف تتريث في رفع رأس المال.
البحث عن الموارد
تعمل بعض المصارف ولا سيما تلك التي توسعت في الخارج في الآونة الأخيرة كـ “بنك لبنان والمهجر” و”بنك عودة” للحصول على الأموال عبر بيع حصتها في المصارف القائمة في الأسواق الخارجية المرغوبة من المستثمرين كمصر أو الإمارات. كذلك عملت هذه المصارف في أوائل العام الحالي على الإستحصال على أرباحها الناتجة عن أعمال وحداتها في الخارج. لكن هذا الخيار لم يعد متاحاً بعد الأزمة التي فرضها انتشار وباء كورونا، إذ اتّجه حكام المصارف المركزية في دول العالم لمنع توزيع الأرباح بسبب الإنكماش الإقتصادي وبالتالي للحفاط على رساميل المصارف، وفقاً لعواد.
العدد الأكبر من المصارف يعوّل على ضخ المساهمين للأموال. فيما يبقى تحويل ودائع المودعين إلى أسهم اختيارياً رهن قرار المودعين أنفسهم. يرى رياشي أن “التعويل على المساهمين أو المودعين لن يكون مجدياً. فلن يرغب المساهمون في مضاعفة خسائرهم وكذلك لن يستثمر المودعون في قطاع متهالك.
أما إعادة تقييم العقارات التي تملكها المصارف وفقاً للقيمة السوقية لها فهو سيحقق رأس مال دفترياً وليس رأس مال حقيقياً. “تُحتسب قيمته كقيمة مضافة في حال تصفية المصرف وليس في حال نيته بالإستمرار”، يقول عواد.
دعم خارجي
“إستقدام إستثمارات خارجية جديدة هو أفضل الحلول لتأمين رأس المال، ولكنه الأصعب بغياب أي أجواء إيجابية في البلاد”، يضيف عوّأد. ويأتي تعميم مصرف لبنان الذي أوجب استعادة نسبة 30 بالمئة من الأموال المحوّلة الى الخارج منذ العام 2017 والتي تتعدّى قيمتها الـ500 ألف دولار، وتجميدها في صندوق لفترة 5 سنوات كقوة دفع باتجاه تحقيق رفع رأس مال المصارف على الرغم من اجحافه بحق المودعين ومعارضة الهيئات الإقتصادية له.
أمّا عن عمليات الدمج المصرفية، فيرى عواد “أنه لن يحصل قريباً. فالعوائق التي تواجه المصارف مماثلة ولو بصفة متفاوتة وبالتالي فلن يختار أي مصرف الحصول على عوائق إضافية”.
الحل الجذري
يقول رياشي “إن مصرف لبنان يقدّم حلولاً جزئية تضيّع الوقت والثقة. “فما يحتاج إليه القطاع المصرفي هو حل شامل وقانون يضع إطاراً لكيفية إعادة هيكلة المصارف. فقد تتغير الخطة إذا تم إعتماد برنامج مع صنوق النقد الدولي. ويسأل رياشي ماذا سيحصل بالرساميل التي ضخّتها المصارف عندئذ؟
فقد أثبتت التجربة المحليّة أن ما يصح اليوم قد يدحضه الغد. فالأحداث السياسية كفيلة ببعثرة الأولويات ورسم مسارات جديدة، ولكن أثبتت أيضاً أن حال المودعين اليوم قد لا يدحضها الغد أبداً.