كان من المنتظر ان تؤدي الدعوات إلى “الجهاد الزارعي”، المترافقة مع تحول كل مواطن إلى مزارع صغير إلى انخفاض الأسعار، أقله هذا العام. إلا ان النتيجة أتت معاكسة. فلا الزراعات الفردية في الجلول الصغيرة وعلى الأسطح والبلاكين أدت إلى زيادة العرض، ولا الدعم المفترض للمزارعين أثّر على الأسعار. فحافظت الحمضيات والخضروات والبقوليات على أسعارها المرتفعة. في حين “أدى إعتكاف المزارعين عن زراعة بعض الاصناف بسبب إنهيار أسعارها إلى نقص هائل بالمعروض، أحدث في المقابل تضخماً كبيراً بأسعارها لاحقاً”، يقول المزارع وجيه العاموري. “وهذا ما حدث على سبيل المثال مع زراعة الملفوف، حيث بقيت أسعار الكيلو منه بحدود 200 ليرة فقط في شهري تموز وآب، مما أحبط المزارعين وأثناهم عن زراعة هذا الصنف للموسم القادم، فانخفضت الكميات وارتفعت الاسعار إلى حدود 2000 ليرة للكيلو الواحد حالياً”.
المساحات المزروعة تنحسر بنسبة 50٪
التخبط الزراعي ليس أمراً جديداً على الفلاحين والعاملين في القطاع الزراعي، إنما تفاقمه هذا العام وتهديده بالقضاء نهائياً على الزراعة الوطنية في القادم من الأعوام، مرده إلى “فشل الدعم المترافق مع استمرار تغييب السياسات الزراعية الواضحة والحكيمة”، يقول رئيس “تجمع مزارعي وفلاحي البقاع” إبراهيم الترشيشي. “وهو ما انعكس تراجعاً في المساحات المزروعة التي ارتفعت نسبتها لتصل إلى حدود 50 في المئة، بعدما أصبحت كلفة الانتاج أعلى من المردود”.
“أيام قليلة ويتوقف الانتاج الزراعي في المناطق الشمالية وسهل البقاع بسبب حلول فصل الشتاء، وننتقل إلى الزراعة الشتوية في الخيم البلاستيكية على الساحل”، بحسب رئيس جمعية المزارعين أنطوان الحويّك. “إلا أن ارتفاع أكلاف هذا النوع من الزراعة دفع إلى تقلص المساحات المستغلة والمزروعة هذا العام. الأمر الذي سينعكس ارتفاعاً في الأسعار نتيجة انخفاض الانتاج وتراجع العرض”. وبالإضافة إلى ذلك، فان عدم قدرة المزارعين على شراء الأسمدة والرشوش المستوردة التي تحمي محاصيلهم من الأمراض ستخفض الكميات المنتجة أكثر وتساهم بمزيد من ارتفاع الأسعار. ولولا الاستيراد من سوريا لكانت الأسعار أكثر بكثير مما هي عليه اليوم”، برأي الحويك.
الدعم الخاطئ
واحدة من المشاكل الكثيرة التي تواجه القطاع الزراعي تتمثل بـ”دعم استيراد الزراعات العلفية والبقوليات كالعدس والحمص والفاصوليا وغيرها، على حساب دعم استيراد المستلزمات الزارعية والمبيدات والأسمدة والبذور”، بحسب ترشيشي. “الأمر الذي أدى إلى اضمحلال هذا النوع من الزراعة الذي كان ينتشر بكثافة على مساحات واسعة في سهل البقاع. إذ كيف لمزارع الشعير الذي يموّل زراعته بدولار السوق الثانوية، أن ينافس الشعير المستورد على سعر 3900 ليرة”. وعليه، يرى الترشيشي، ان “تخصيص جزء من الدعم ووضع آليات تطبيقية تمنع احتكاره من قبل بعض كبار التجار أو تهريبه وتسمح بوصوله إلى المزارعين بالتساوي، لكان أمّن للمواطنين حاجاتهم بأسعار مقبولة، ووفر على الإقتصاد إستنزاف الدولار الذي يذهب قسم كبير منه على التهريب والاحتكارات”. فالزراعة لن تستقيم برأيه إلا من خلال “وقف استيراد كل الاصناف التي تنتج محلياً وتحويل كلفة استيرادها المرتفعة إلى دعم المزارعين”.
لكن هل تؤمّن الزراعة المحلية حاجات السوق؟ وألا يؤدي هذا الأمر إلى ارتفاع كبير في الأسعار؟ “في حال توقف الاستيراد فان المزارعين يستطيعون تأمين حاجات السوق بعد دورة أو دورتين زراعيتين على أبعد تقدير أي بعد 6 أشهر”، يجيب ترشيشي، “كما ان ارتفاع الاسعار سيذهب في هذه الحالة إلى المزارع اللبناني وليس الأجنبي. والذي سيعود وينفق المال في السوق المحلية ما يؤدي إلى انتعاش الدورة الإقتصادية. وذلك على عكس ما يحصل اليوم حيث لا يستفيد من الدعم إلا بعض اصحاب الكارتيلات المتخصصين في تسويق طلباتهم وقبض الاموال على حساب الجميع”.
تُجمع آراء جميع المعنيين في القطاع الزراعي ان دعم الزراعة بقي حبراً على ورق، ولم يترجم تطبيقاً على أرض الواقع. ومن جهة أخرى “استوردت معظم الشركات الزراعية كل حاجاتها في بداية الموسم”، بحسب الحويّك، “ولم يعد من مصلحتها استيراد كميات جديدة قبل أن تصرف البضائع الموجودة في مخازنها”.