نحن في خضم معركة البقاء التي تديرها المصارف منذ بداية أزمة شح الدولار إلى الأزمة المعمّمة التي لا تزال تتفاقم بعد اندلاع انتفاضة ١٧ تشرين الأول. معركة غير مسبوقة في التاريخ المصرفي حتى في التجارب التي شهدت تأميماً للقطاع المصرفي في بلدان كثيرة. إنها معركة البقاء الغريبة كليّاً عن ثقافة اقتناء وخزن الأموال في لبنان.
عطّلت الاجراءات المصرفية دور المال كمستودع للقيمة وناظم للأسعار ووسيط للتبادل. الخصائص الثلاث للعملة فُقدت او انقلبت رأساً على عقب، وانقلبت معها ثقافة احترام مؤسسات المال في بيروت.
ما هو ثابت اليوم انّ ما حصل في شهرين استهلك رصيد الثقة الذي بَنته المصارف اللبنانية في ثمانين عاماً.
أزمة الثقة هذه هي اليوم بيت القصيد: المال هو الثقة! لا ينفع أن تجد المصارف ألف مبرّر ومبرّر لأزمتها من اختزان النقد في عبّ الناس وبيوتها إلى أن ودائع الناس موجودة لكنها أقرضتها للحكومة والبنك المركزي ولقطاع خاص معطّل في تدفقاته النقدية.
قد تكون هذه الأسباب صحيحة لكنها غير قادرة على استعادة الثقة المفقودة. فالناس يهمها أمان أموالها أكثر بكثير من أسباب ضياع هذه الأموال او تعطلها.
قد نكون على أبواب حلّ سياسي في بيروت، وقد يتضمن هذا الحلّ ضخ أموال في شرايين الاقتصاد تعيد تمويل احتياجاته الأساسية. لكن السؤال الرئيس هو كيف ستعمل شرايين المال؟
إنّ ضَخ المال في أي اقتصاد له وظيفة استدراج استثمارات داخلية وخارجية تعمل من خلال المضاعف النقدي لتكبير حجم الاستثمار والاقتصاد. فهل ستجد أموال الادخار/ الاستثمار ملاذاً في القطاع المصرفي اللبناني؟
القطاع فاقد للمصداقية، تصنيفه سيئ جداً، عليه دعاوى داخل لبنان وخارجه بعدم الدفع.
قد يقتنع المودع الصغير انّ الأزمة قد تحل بعودة انتظام الوضع العام، لكن هل ينسى هذا المودع ومن هو أكبر حجماً منه كيف تعاطت المصارف باستنسابية مع أموال المودعين، وكيف قدّمت خدمات خاصة لزبائن خاصّين، وكيف حوّلت اموالاً لبعض المودعين إلى الخارج وحرمت مستوردي بضائع حيوية من التحويل حتى من أموالهم الخاصة لا من تسهيلاتهم؟
وهل يمكن إقناع كبار المودعين، والمستثمرين المحتملين في الخارج، انّ أموالهم في أمان اذا حُلّت الأزمة السياسية؟ «المال الكبير» لديه من يقرأ له المعطيات العلمية غير الاستناد إلى الإعلام ومدراء الفروع وتصريحات السياسيين.
حاولت المصارف اللبنانية تخفيض حجم قروضها عبر بيع محافظها العقارية الضخمة ومحافظ مدينيها من المطورين العقاريين بما يعرف بأكبر عملية بيع إجباري في التاريخ لمودعين يحاولون تنويع مخاطرهم وتخفيض الممكن من حجم ما سيبقى مودعاً في المصارف.
كذلك هناك شكوك بتواطؤ بين بعض المصارف والصرافين في موضوع حسم الشيكات المصرفية مقابل النقد بعمولة تصل إلى 35% سعياً لترميم ربحيتها المنهارة.
وفي الحالتين، إنّ تخفيضاً جانبياً للميزانية المصرفية سوف يزيد من درجة انكشاف المصارف على الدين العام ومصرف لبنان، وهو الأمر المشكو منه أصلاً لدى مؤسسات التصنيف.
هل يكون ضَخ رساميل جديدة في المصارف هو الحل؟ وهل يمكن أن يكون مفيداً في ظل نفس القيادة المصرفية؟ أم انّ عملية تعويم شاملة قد تحصل من خلال ما يسمّى بلبننة الودائع أو تأميم المصارف؟
كل الحلول ممكنة ولكنها لن تحل أزمة الثقة بالقطاع المصرفي، وهي الأساس لحفظ حقوق المودعين اليوم وفي المستقبل. وأهم من ذلك، انها لن تكون قادرة على استدراج رساميل طازجة الى القطاع.
هل يتم الترخيص لبنوك دولية وإقليمية في بيروت تعمل كقطاع نظيف غير متعرّض لكل مشاكل القطاع الحالية. حلّ ممكن ولكن دونه إفلاس المصارف المحلية وضياع أموال الناس.
لن يكون هناك حل خارج دمج البنوك بوحدات كبرى، لكنّ الخوف الحقيقي أنّ ذلك لن يكون ممكناً من دون سيطرة شركاء أجانب استراتيجيين يحوذون ثقة المودعين والمستثمرين ويستطيعون أن يوقفوا نزيف الودائع بحيث تعود لهم اعادة هيكلة العمل المصرفي في لبنان وإحالة القيادة المصرفية الحالية إلى التقاعد، الخوف أيضاً من الشروط التي سيقبل هؤلاء تبعاً لها بتحمّل المسؤولية عن مطلوبات تتجاوز 150 مليار دولار؟
د. بيار الخوري أكاديمي وخبير اقتصادي – الجمهورية