صعَّدَت المصارف لهجتها أمام المودعين. وجَعَلَها تراخي السلطة التشريعية ومصرف لبنان تواصل تصعيدها وصولاً إلى تَحدّي القضاء والتجرّؤ على المطالبة بمحكمة خاصة تنظر في خلافاتها مع المودعين الذين يحقِّقون انتصارات متفرِّقة تنتزع بعض حقوقهم وتهزّ صورة المصارف في الداخل والخارج.
وما زالت المصارف تتّخذ قرارات، يظنُّ بعض مدرائها أنها تضغط لتحقيق مصالحهم، لكنّها في الواقع تزيد التساؤلات حول ما تبقّى من دور للمصارف التي تحاصر نفسها “بفعل حالة إنكار الواقع”. فإلى أين سينتهي بها المطاف؟.
الإقفال خسارة للمصارف
ترفض المصارف القرارات القضائية الصادرة بحقّ بعضها، وتربط تداعياتها بتهديد مصالح المودعين وتهديد علاقتها بالمصارف المراسِلة. وكرَدٍّ على القرارات، تذهب المصارف نحو الإقفال لتعرقل ما تبقّى من خدمات يستفيد منها المودعون والموظّفون في القطاعين العام والخاص. ولأن هؤلاء أمَّنوا المصارف يوماً على رواتبهم ومدّخراتهم فإن الإقفال والإضرار بالقدرة على الوصول إلى الأموال يُعتَبَر بنظر الخبير الاقتصادي روي بدارو “إساءة إدارة المهام التي أوكِلَت بها من قِبَل المشرِّع، وأفضى ذلك إلى إساءة الأمانة، وهو جرم جزائي يعاقب عليه القانون”.
أمّا اللجوء إلى الحق القانوني بالإضراب، فلا ينطبق على المصارف، وفق ما يقوله بدارو لـ”المدن”. ويعلِّل رأيه انطلاقاً من دور المصارف القائم على “استقطاب الودائع”. وبالتالي هي “ليست تاجراً عادياً يُقفل مؤسسته عندما يريد، بل على المصارف مسؤولية تتعلّق بالأمن القومي والاجتماعي، ولذلك يُمنَع عليها الإقفال ولو لساعة واحدة”.
الإقفال يساهم بشكل من الأشكال في “خراب القطاع المصرفي”، وهي تهمة تلصقها المصارف عادةً بكل مَن يتعرَّض لها بشكل قانوني أو غير قانوني. واللافت للنظر أن “بعض المصرفيين، يستأثرون بالقرارات ويأخذون القطاع برمّته إلى الهاوية، بمن فيه المصرفيين الرافضين لبعض الممارسات، ومنها الإقفال”. علماً أن كبار المصرفيين يعترفون بالنتائج السلبية ويصرّون على المضيّ بالمسار عينه.
ولأن بعض المصرفيين يدركون أن المسار الذي يدفع نحوه كبار المصرفيين، مسدود، فلا بُدَّ من انعطاف يفتح المجال أمام نهاية إيجابية. وأولى مظاهر الانعطاف هو التعاون مع القضاء وعدم الاصطدام معه. والتجربة الأولى هي إبداء مصرفيّ لبنان والمهجر والاعتماد المصرفي رغبتهما في التعاون مع النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، القاضية غادة عون، التي طلبت من بعض المصارف رفع السرية المصرفية عن حسابات رؤساء وأعضاء مجالس إدارتها ومفوّضي المراقبة ومدقّقي حساباتها. مع أن التعاون الذي ترفضه جمعية المصارف، لم يصل حتى الساعة إلى تطبيق القرار.
ويكشف بدارو عن اجتماع عُقِدَ بالأمس القريب “ضَمَّ بعض أصحاب المصارف. طُرِحَت خلاله تساؤلات حول المرحلة المقبلة ودور المصارف في المستقبل بعد تجاوُز ارتكابات الماضي وممارسات الحاضر. لكن لم يكن هناك تصوُّر أو جواب واضح، بل استمرار في حالة إنكار الواقع”.
الشراكة الأجنبية
انحسار دور المصارف تجاه العملاء، أفراداً أو شركات، واصطدامها مع القضاء، سيُصعِّب استعادة دورها.
والعودة مهما كان شكلها الجديد “لن تكون سهلة إلاّ إذا اقترنت بشراكة مع مصارف أجنبية تكون ضمانة للمودعين والشركات في الداخل، وللمصارف والمستثمرين في الخارج. لأن الثقة بالمصارف اللبنانية انتهت بالنسبة للخارج. وللأسف، دَفَعَ بعض المصرفيين ثمن ارتكابات البعض الآخر. فالمصارف الأجنبية، على سبيل المثال، لم تعد تُسلِّف المصارف اللبنانية إلاّ وفق ما تملكه الأخيرة من أموال في حساباتها الخارجية”. وهذا الواقع “يُربِك المصرفيين وإن لم يعترفوا بذلك”.
الدعاوى القضائية مستمرة. والاتجاه نحو رفع السرية المصرفية هو مطلب يُنصِف المودعين إلى حدٍّ ما، في حال تحقُّقِه، وهو ما لن ترضاه جمعية المصارف بسهولة. وعليه، من غير المستبعد ممارستها لمزيد من الضغط. أما الاستهتار المتمثِّل باستعمال الصرّاف الآلي كمنفذ وحيد للمودعين والموظّفين، للوصول إلى أموالهم، فهو “تربيح جْميلة” لا طائل منه، لأنه يؤكّد عدم استسلام المصارف لضرورة التعاطي بشكل مختلف يضمن انتقالاً سلساً إلى قطاع مصرفي جديد يتلائم مع المتغيّرات المفروضة بعد العام 2019.