تحيك المصارف خديعة جديدة بحق عملائها، تستهدف حل برامجهم الإدخارية بأقل تكاليف ممكنة، على غرار ممارساتها التي استهدفت تذويب ودائع العملاء من نهاية العام 2019 وحتى اليوم. تحاول المصارف جاهدة من خلال شركات التأمين إغلاق الحسابات الإدخارية وبوالص التأمين المرتبطة ببرامج التقاعد والتعليم الجامعي وغيرها.
وتتلازم تصفية برامج التوفير وإغلاق الحسابات مع عروض من المصارف للعملاء بسداد نسبة تتراوح بين 15 و20 في المئة من قيمة البوالص، أي مدخراتهم بالدولار النقدي “الفريش”، في مقابل إغلاق الحسابات كلياً وإنهاء البرامج، أو تحويل البوالص إلى حسابات جديدة بالدولار النقدي.
أساليب عديدة تعتمدها المصارف اليوم تستهدف إغلاق حسابات البرامج الإدخارية المسحوبة على شركات التأمين المتعاملة معها والمملوكة منها غالباً.
احتيال شركات التأمين
بادرت العديد من المصارف وشركات التأمين المرتبطة بها، إلى التواصل مع عملائها من أصحاب البوالص التي كانت تروّجها على هيئة برامج اجتماعية، منها ما يتعلّق بالإدخار للتقاعد أو بالتعليم الجامعي للأولاد وغيرها من البرامج.
لم تكن تلك البوالص أو البرامج يوماً بالليرة اللبنانية، فعقودها كانت تُبرم بالدولار ويتم سداد أقساطها شهرياً بالدولار، في مقابل حصر الاستفادة منها بالدولار أيضاً. استمرت تلك البرامج إلى حين تفجّر الأزمة عام 2019، حين احتجزت المصارف أموال المودعين، فسرت مذاك الوقت عملية الاحتجاز على أموال المدخرين في برامج التأمين. بمعنى آخر، احتجزت شركات التأمين المملوكة من المصارف أموال المؤمّنين.
وإذا كانت المصارف تتنكر لأموال المودعين وترمي المسؤوليات على الدولة ومصرف لبنان، فإن شركات التأمين لا يمكنها أن تتماثل مع المصارف. إذ أن آلية عملها تختلف عن المصارف، وأموال التأمين لا يمكن وضعها في سلة الودائع.
من هنا يرى رئيس الجمعية اللبنانية لحماية المؤمّن لهم والمستشار القانوني للجنة مراقبة هيئات الضمان سابقاً، المحامي روجيه كرم، في حديث إلى “المدن” أن على شركات التأمين في عقود التأمين على الحياة، كما في المنتجات التأمينية التي تتضمّن أدوات مالية أو تحتوي على جوانب ادخارية أو استثمارية أو ما يعرف بالـUnit-Linked، أن تقوم بسداد كافة التعويضات والمستحقّات، وأن تعيد كامل المبالغ المدّخرة، وذلك وفق عملة العقد وبناءً للقيمة الفعليّة نفسها لعملة العقد، أيّ بالدولار الأميركي الفعلي، إذا كانت عملة العقد هي الدولار الأميركي. وهو يرى أن موجب شركات التأمين هو موجب مشدّد، على اعتبار أنها جهات محترفة أو ممتهنة، وإن هذا الموجب أشدّ درجة من موجب المصارف بردّ الوديعة، وذلك بالنظر للطبيعة الضامنة والحمائية لعقد التأمين، حيث تضمن شركة التأمين ردّ الاحتياطي النقدي عملاً بالمادة 1013 من قانون الموجبات والعقود. وبالتالي، فإن موجبها لا يقتصر على ردّ المبالغ المدّخرة كما الحال بالنسبة للمصارف، إنما يتعدّاه إلى ضمان هذا الردّ.
شركة آروب مثالاً
وكما باقي الشركات، تحاول شركة آروب على سبيل المثال تصفية تلك البرامج الإدخارية التي كانت تسوّقها عبر بنك لبنان والمهجر Blom Bank، منها برنامج ولدي وبرنامج ضمانتي. يتواصل موظفو المصرف وزملاؤهم في شركة آروب مع العملاء، ويحاولون إقناعهم بتصفية تلك البوالص وإغلاق حساباتهم كلّياً أو إعادة تفعيلها بالفريش دولار حصراً.
ويمارس الموظفون على العملاء ضغوطاً، عبر التأثير عليهم بأن تلك البوالص لم يعد لها أي قيمة، ولا مستقبل لها على الإطلاق. هذه العبارة تحديداً يرددها الموظفون على مسامع المؤمّنين لإغلاق حسابات تلك البوالص. أما الثمن فهو تقاضي نسبة لا تزيد عن 20 في المئة فقط نقداً من قيمة البوليصة، أي من قيمة الأموال التي تم إدخارها للتقاعد أو التعليم.
وتطرح آروب خياراً آخر للعميل يتمثّل باستكمال البرنامج بالدولار نقداً بضمانة إيداع نسبة 22 في المئة من قيمة البوليصة نقداً في أحد مصارف سويسرا، على أن يتم استكمال التقسيط بقيمة 100 دولار نقداً شهرياً كما كان الحال سابقاً. وعند السؤال “ما الضمانة أن تكون الـ22 في المئة مودعة فعلياً في مصرف في سويسرا؟ وما الضمانة أن لا تتحول المدخرات بالدولار النقدي لاحقاً إلى ليرة كما حصل خلال الأزمة الحالية؟ جاء الجواب بأن لا ضمانة سوى العقد. وما قيمة العقود ما لم يتم التقيّد بها؟
خداع شركات التأمين
عملية خداع جديدة تمارسها المصارف وشركات التأمين على العملاء متذرّعة بالأزمة المالية، علماً أن عقود التأمين لها حيثيتها التي تميّزها عن العقود المصرفية. ويعتبر كرم في هذا الإطار أنه لا يحقّ لشركات التأمين التذرّع بالأزمة الحالية التي يعاني منها القطاع المصرفي، لتبرير ردّ المبالغ إلى عملائها بموجب شيكات مصرفية، وذلك في حال كانت تلك المبالغ قد أودعت في حسابات مصرفية داخل لبنان، على اعتبار أن على تلك الشركات ضمان ردّ المبالغ كما هي ووفق قيمتها الفعلية، بقطع النظر عن أوضاع المصارف، وذلك انطلاقاً من طبيعة عقد التأمين والغاية منه باعتباره عقد ضمان.
انطلاقاً ممّا تقدّم، يرى كرم أنه لا يصحّ في الأصل التمييز بين مبالغ مودعة في حسابات مصرفية داخل لبنان وأخرى مودعة في حسابات أو مستثمرة في أدوات مالية في الخارج، حيث يقع على شركات التأمين واجب ردّ وضمان ردّ تلك المبالغ أينما كانت، مودعة أو مستثمرة، وذلك وفق قيمتها الفعليّة. على أنه في حال تبيّن أن جزءاً من تلك المبالغ مودع أو مستثمر في الخارج، تنتفي حينها واقعيّاً أيّ ذريعة لشركات التأمين بردّ هذا الجزء بموجب شيكات مصرفية محليّة.
وفي هذا السياق، يذكّر كرم بإعلام هيئة الأسواق المالية رقم 71/2021 المتعلّق بالعملاء الذين يملكون محافظ أدوات مالية خارج لبنان، والذي جرى تعميمه من قبل لجنة مراقبة هيئات الضمان على جميع شركات التأمين، حيث يوجب الإعلام المذكور على المؤسسات المالية في حال قرّر العميل تصفية أدواته المالية الموجودة خارج لبنان، أن تقوم بتحويل صافي الأموال إلى حساب العميل بالأموال الجديدة أو الفريش داخل لبنان، أو إلى حساب له في الخارج وفقاً لطلبه.
من هنا، يدعو كرم المؤمّن لهم إلى التحرّي من شركات التأمين عن المعلومات المتعلّقة ببوالصهم وبحسابات الإدخار العائدة لهم، وبمعدّلات وعوائد الاستثمار وبكيفية استثمار الأموال، والجهات التي جرى استثمارها لديها، وبنسبة الاحتفاظ أو تحمّل المخاطر وحصّة معيدي التأمين. وهو يرى أن على شركات التأمين الاستجابة لطلب المؤمّن لهم الحصول على هذه المعلومات، لا بل المبادرة تلقائيّاً إلى إعطائها، انطلاقاً من واجب تلك الشركات لجهة الالتزام بمبادئ الشفافية والإفصاح، وبموجب الإعلام وفق ما تكرّسه المبادئ العامة للقانون وقانون حماية المستهلك وقانون الأسواق المالية، ناهيك عن المعايير الدولية التي ترعى عمل شركات التأمين.