شيئًا فشيئًا بدأت جمعيّة المصارف بإشهار عناوينها ومطالبها، في مواجهة مسودّة مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، المطروحة داخل مجلس الوزراء. فبعد مذكرة ربط النزاع التي أرسلتها المصارف، والتي تمهّد لمقاضاة الدولة وتحميلها 67.9 مليار دولار من خسائر القطاع، جاءت يوم الإثنين افتتاحيّة التقرير الشهري للجمعيّة، الموقّعة من أمينها العام فادي خلف. في تلك الافتتاحيّة، أشهر خلف الخطوط الحمر التي تسعى جمعيّة المصارف إلى فرضها، في مواجهة أي مسعى لإعادة هيكلة القطاع أو المس برساميل أصحاب المصارف. ما ترفضه الآن جمعيّة المصارف، بحسب خلف، ليس سوى وصاية مصرف لبنان على عمليّة إعادة الهيكلة، وهو الجهة الوحيدة التي تملك حسب القانون صلاحيّة تنظيم القطاع ومراقبته.
تناقضات خطاب جمعيّة المصارف
الحجّة التي يطرحها خلف في الافتتاحيّة هي أنّ مسودّة مشروع قانون إعادة الهيكلة تضع المصرف المركزي كحكم، عبر الهيئة المختصّة التي تملك صلاحيّة البت بمصير كل مصرف تجاري على حدة. يتساءل خلف: كيف يصبح المصرف المركزي حكمًا، بعدما لم يحترم تعهّداته السابقة؟ هل احترم المصرف المركزي وعوده السابقة، يوم طمأن حاكم المصرف السابق رياض سلامة المصارف بخصوص أموالها المودعة لدى المركزي؟
هكذا، يذهب خلف إلى الطعن بسيرة ووعود الحاكم السابق، سيّء الذكر والسمعة في أذهان اللبنانيين، ليبرّر تمرّد المصارف على وصاية المصرف المركزي اليوم، وليطالب –بكل جديّة- بإشراك المصارف في قرارات إعادة الهيكة!
الطريف في الموضوع، هو أنّ المصارف التي ترفض وصاية المصرف المركزي على عمليّة إعادة الهيكة، هي نفسها المصارف التي استندت إلى تعاميم سلامة نفسها، للتملّص من تطبيق القوانين التي ترعى علاقتها بالمودعين، في مقابل الاحتكام إلى التعاميم التي حدّدت سقوف وشروط السحوبات الشهريّة.
مرجعيّة مصرف لبنان، ورياض سلامة شخصيّا، كانت مقبولة يوم كانت تبرّر التمرّد على القانون، بتعاميم حملت توقيع الحاكم السابق المدّعى عليه بجرائم الاحتيال والسطو. لكن هذه المرجعيّة باتت مرفوضة اليوم بعد رحيل سلامة، إذا كانت عمليّة إعادة الهيكلة ستمس بملكيّة كبار المساهمين لمصارفهم.
المفارقة الأخرى، هي أنّ المصارف نفسها، استندت في مذكّرة ربط النزاع إلى عمليّات التزوير التي قام بها الحاكم السابق في آخر أشهر من ولايته، والتي أضافت مبلغ الـ67.9 مليار دولار كدين على الدولة اللبنانيّة، لصالح المصرف المركزي. وهذا تحديدًا ما أعطى مذكرة ربط النزاع الحجّة القانونيّة لمطالبة الدولة بتسديد المبلغ لمصرف لبنان، كي يسدده بدوره للمصارف التجاريّة، وتُعالج خسائر القطاع على حساب المال العام (أو بالأحرى، الأصول العامّة، لكون المبلغ أكبر من الإيرادات الحكوميّة التي يمكن جنيها على مدى 4 عقود من الزمن، من دون الإنفاق على أي شيء آخر).
هكذا، ومرّة أخرى، تسلّم المصارف بمرجعيّة حاكم المصرف المركزي السابق، حين تكون خلاصة أعماله التزوير لصالح المصارف نفسها، وحين تكون النتيجة تحميل خسائرها للقطاع العام وأصول الدولة وإيراداتها. أمّا حين “يصل الموس” إلى عمليّة إعادة الهيكلة، أي تحديد مصير المصارف غير القادرة على الاستمرار، فتصبح هذه المرجعيّة مرفوضة، بل ويصبح المطلوب التمرّد على وصاية المصرف المركزي، لمجرّد أن الحاكم السابق لم يحترم تعهّداته بحماية أموال المودعين!
صوملة القطاع المصرفي
بعيدًا عن تناقضات خطاب الجمعيّة، ثمّة ما يجب الإلتفات إليه هنا. فنحن أمام جمعيّة توثّق ارتكابات الحاكم السابق ومخالفاته، لتبرّر الإطاحة بالدور الذي يعطيه قانون النقد والتسليف أصلًا لمؤسسة عامّة، هي مصرف لبنان، في مجال الوصاية على القطاع المصرفي. بهذا الشكل، تطعن الجمعيّة بأبسط بديهيّات الإدارة الرسميّة، التي تفرض محاسبة المسؤولين الرسميين المخالفين بعد عزلهم، في مقابل احترام استمراريّة عمل المؤسسات العامّة وأدوارها الرقابيّة والإداريّة، بل وأيضًا في مقابل احترام سيادة القانون على الجميع.
ما تقوله جمعيّة المصارف هنا، هو أنّ مخالفة مسؤول ما، تفرض الطعن بدور الإدارة العامّة نفسها، وبسيادة القانون برمّته، بدل احترام القانون بمعزل عن مخالفات المسؤولين (الذين يفترض عزلهم، لا عزل القانون!). ولو أراد كل لبناني أن يطبّق اليوم منطق جمعيّة المصارف، لتحوّلت الجمهوريّة بأسرها إلى حالة من الفوضى التي لا تحتكم إلا إلى قانون الغاب، ومنطق استيفاء الحق بالذات. فهل يمكن لنا أن نجد وزارة أو أسلاك أمنيّة أو عسكريّة مثلًا، لم يمر فيها قيادات من أصحاب المخالفات القانونيّة؟ وهل المنطق يفرض محاسبة هؤلاء، أم الإطاحة بالقانون؟
المشكلة الأهم، هي أنّنا أمام قطاع يخالف منذ أربع سنوات القوانين التي تحكم علاقته بالمودعين (مجددًا: بالاستفادة من ارتكابات الحاكم السابق، التي يشير إليها خلف في الافتتاحيّة). ونحن أمام قطاع لا يمارس أبسط مهامه التقليديّة، وهي تلقّي الودائع ومنح التسليفات. وطبعًا، نحن أمام قطاع لا يريد معالجة خسائره، ولا استعادة انتظامه. لعلمه أنّ ذلك غير ممكن من دون عمليّة إعادة هيكلة وإعادة رسملة شاملة، بما يفضي إلى دخول مساهمين جدد، ودمج أو تصفية المصارف غير القادرة على الاستمرار.
الجديد في هذا المشهد، هو أن هذه المصارف باتت تطالب اليوم بالتحرّر من الوصاية القانونيّة الوحيدة والأخيرة المفروضة عليها، وهي وصاية مصرف لبنان. هكذا، سنكون غدًا –إذا نجحت الجمعيّة في تمرّدها- أمام حالة من “الصوملة” في القطاع المصرفي، بما تعنيه هذه الكلمة من فوضى وتسيّب وتملّص من سيادة القانون ومؤسسات الدولة، ناهيك عن حالة الخراب التي يعاني منها القطاع أساسًا.
أمّا الغريب في كل هذا المشهد، فهو أنّ مصارف مفلسة عمليًا، تطالب رسميًا اليوم بأن تشرف على عمليّة إعادة هيكلتها بنفسها، أي بأن تقرّر هي مصير كل مصرف على حدة. وذلك بدل تطبيق القوانين الموجودة أساسًا (بمعزل عن قانون إعادة الهيكلة)، والتي تفرض عزل مجالس الإدارة المسؤولة عن الإخفاقات، والتدقيق في أسباب الخسائر المتراكمة داخل القطاع، وملاحقة العمليّات الاحتياليّة التي صبّت في مصلحة أرباح كبار المساهمين، على حساب أموال المودعين، كحال عمليّات الهندسات الماليّة وغيرها.
مجددًا: نحن أمام من يطالب بتكريس ثقافة الإفلات من العقاب، بدل تكريس مبادئ حكم القانون ودولة المؤسسات.
ماذا تريد جمعيّة المصارف؟
في النتيجة، لا تريد المصارف تسليم “رقبة” رساميلها وملكيّتها للجنة مختصّة في مصرف لبنان، لتحديد المسار الذي سيفضي إلى دمج بعض المصارف وتصفية بعضها الآخر، وفرض إعادة رسملة المصارف القادرة على الاستمرار. وهي لا تريد حتمًا أن يمس هذا المسار بأسهمها، أي بملكيّة كبار المساهمين لمصارفهم. كما ترفض البنود التي تشير إلى إمكانيّة ملاحقة الأملاك الخاصّة لأعضاء مجالس الإدارة، إذا ما تبيّن اتصال بعض الخسائر بعمليّات احتياليّة قاموا بها. وكما تبيّن أيضًا، ترفض المصارف بشكل حازم فكرة دخول مصارف أجنبيّة على خط تقديم الخدمات المصرفيّة في لبنان، أو المشاركة في عمليّة إعادة هيكلة القطاع.
بمعنى آخر، ترفض المصارف مسار إعادة الهيكلة، من ألفه إلى يائه، وبجميع تفاصيله ومندرجاته. المطلوب حاليًا هو بقاء الوضع الراهن، على ما هو عليه، مع استكمال مسار تأسيس “صندوق استرداد الودائع”، الذي سيحوّل إلتزامات المصارف للمودعين إلى ديون عامّة على الدولة اللبنانيّة.
هذا المسار الذي سيغرق الدولة بإلتزامات لا يمكن سدادها في المستقبل، هو وحده حبل النجاة، الذي يعفي أصحاب المصارف من تحمّل نصيبهم من الخسائر، ولو على حساب الدولة والمودعين. هذا ما تريده المصارف.