لم تنص خطّة التعافي المالي على تفاصيل واضحة لجهة كيفيّة توزيع الخسائر على كبار المودعين، باستثناء الحديث عن ضمان كل وديعة لأقصى حد من السيولة المتبقية في النظام المصرفي. بهذا المعنى، لا قيمة لكل ما قيل في بيان جمعيّة المصارف، لناحية الإشارة إلى “شطب الودائع بشخطة قلم”، طالما أن الخطّة لم تحدد كيفيّة التعامل مع هذه الودائع بعد. في الأصل، ما تم تقديمه حتّى اللحظة لا يتجاوز حدود طرح المبادئ العامّة، لكيفيّة إعادة هيكلة القطاع خلال السنوات المقبلة، وتراتبيّة توزيع الخسائر بين الأطراف المختلفة.
بنود ثلاثة أججت غضب الجمعيّة
ما أجّج غضب الجمعيّة كان واضحًا، في ثلاثة بنود معلنة تم وضعها كإطار للعمل في المستقبل:
– احترام “تراتبيّة الحقوق والمطالب”، وهي عبارة معروفة في أسواق المال، تشير إلى مبدأ بديهي يفرض تحميل صاحب الرأسمال الشريحة الأولى من الخسائر عند حصول حالات التعثّر والإفلاس. وهذا المبدأ، سيعني تلقائيًّا شطب الرساميل المصرفيّة في أوّل مرحلة، للتعامل مع أول شريحة من الخسائر المقدّرة في الميزانيّات.
– حل وتصفية المصارف غير القابلة للاستمرار، بعد تحميل رساميلها نصيبها من الخسائر، في حال لم يتمكّن أصحاب هذه المصارف من تقديم الأموال اللازمة لإعادة رسملتها. وهذا المبدأ، سيعني تخطّي فكرة “إعادة الهيكلة الطوعيّة”، أي السماح للمصارف بالعمل كمصارف “زومبي” ممتلئة بالخسائر المتراكمة، من دون أن تتمكّن من سداد الودائع لأصحابها، إلى أن تقرر هي طوعًا الدخول في عمليات دمج أو إعادة رسملة. مع الإشارة إلى أنّ آليات الحل والتصفية تسمح بقيام المصارف التي تمكنت من إعادة رسملة نفسها، بعد معالجة الخسائر، بالاستحواذ على المصارف الموضوعة قيد التصفية.
– منع استعمال المال العام أو الأصول العامّة للتعامل مع الخسائر المصرفيّة، وهو ما يُسقط تلقائيًّا مشروع الصندوق السيادي الذي تطرحه راهناً جمعيّة المصارف. مع العلم أنّ مصادر الوفد اللبناني الذي فاوض صندوق النقد تشير إلى أن الوفد حاول في أربع جلسات نيل موافقة الصندوق على أفكار شبيهة بالصندوق السيادي، من دون أن ينجح، بعد أن تبيّن أن حجم الأصول العامّة المتوفّرة والعوائد المتوقّعة منها لا تكفي لسداد جزء يسير من فجوة الخسائر، ولو بعد فترات زمنيّة طويلة. كما تشير المصادر نفسها إلى أنّ الصندوق عاد وشدد على مبدأ الحد من إنفاق المال العام في عمليّة الإنقاذ المصرفي، من باب الحفاظ على ملاءة الدولة اللبنانيّة الائتمانيّة، وقدرتها على سداد الديون في المستقبل.
عودة السجال حول حجم الخسائر
على هذا الأساس، أدركت المصارف أنها أمام خطّة معادية لمصالح أصحابها، فبدأت التصويب على مبدأ تحديد الخسائر، كما فعلت عام 2020 مع خطّة شركة لازارد. ومن هنا، بدأت حملة جمعيّة المصارف الإعلاميّة على فكرة “شطب الـ60 مليار دولار”، وكأن الخطّة الجديدة هي ما سيشطب هذا المبلغ من الميزانيّات المصرفيّة. مع الإشارة إلى دور الخطّة في هذا الإطار ينحصر في لحظ هذه الخسائر، أو تحديدها محاسبيًّا في العلاقة بين المصارف ومصرف لبنان، في حين أن هذه الخسائر موجودة أساسًا كأمر واقع منذ سنوات طويلة مع الخطّة أو من دونها. أمّا أهميّة لحظ الخسائر وتحديدها، فتكمن في ضرورة إجراء هذه الخطوة قبل التعامل مع هذه الخسائر بشكل واضح ونهائي، تمهيدًا لاستعادة الانتظام في العمل المصرفي.
وهكذا، تكرّر خلال الأيام الماضية سيناريو خطة شركة لازارد، الذي حصل العام 2020، مع تكرار الحديث عن عمليّة “تفليس ممنهجة” تستهدفها الخطّة الجديدة، والإيحاء للرأي العام بأن الخطّة تقوم بافتعال الخسائر أو خلقها، لا الاعتراف بها فحسب. وبالفعل، تمكّنت المصارف من تسجيل بعض النقاط في مرمى الحكومة إعلاميًّا، قبل مقابلة نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الأخيرة، التي دخلت في تفاصيل الخطّة والبدائل التي قامت بطرحها جمعيّة المصارف.
حملة علاقات عامّة
هكذا، باشرت جمعيّة المصارف تطبيق خطة العلاقات العامّة التي وضعتها مسبقًا، والتي خصصت لأجلها فريق عمل متخصص مع استشاريين في مجالات الضغط والمناصرة والتواصل الإعلامي. وهذه الخطّة، ركّزت عملها على أكثر من محور:
– تحريك جبهة العلاقات السياسيّة، وخصوصًا عبر التواصل مع نوّاب وكتل وأحزاب مؤثّرة داخل المجلس النيابي، مع تسليح جميع هؤلاء بالجمل المفاتيح المطلوبة في المواجهة الإعلاميّة، من قبيل: تحميل الدولة لمسؤوليّاتها، تفادي شطب الودائع، وفكرة الصندوق السيادي التي تم تعليبها بأكثر من شكل وعنوان لتمرير الفكرة من دون ربطها بدعاية جمعيّة المصارف.
– التواصل مع خبراء المال والاقتصاد الذي اعتادوا مناصرة المقاربات التي تطرحها الجمعيّة عبر الوسائل الإعلاميّة، ومن هؤلاء من بادر تطوّعًا إلى صياغة رسائل تم نشرها في الإعلام، بهدف تفنيد خطّة التعافي المطروحة ونقدها، وطرح أفكار بديلة تستخدم الأصول العامّة لإطفاء الخسائر.
– التنسيق مع مؤسسات إعلاميّة مرئيّة، بهدف “ترتيب” مواضيع الشق الاقتصادي في برامجها الحوارية، وتحديدًا من خلال الإشارة إلى “الخبراء” المسلّحين بالحجج التقنيّة التي ستواجه الخطة الحكوميّة.
– جمع هيئات القطاع الخاص في أكثر من إطار، في محاولة لحشد هذه الهيئة في مواجهة الخطّة. كما سعت الجمعيّة في عدّة مؤتمرات تم عقدها خلال الأيام الماضية إلى التركيز على مبدأ الصندوق السيادي، كباب لتحريك عجلة الاستثمار في القطاع الخاص. مع الإشارة إلى أنّ الجمعيّة تحرّكت في هذا المجال بشكل مقنّع، تحت مسميات غير صريحة، باعتماد أسماء هيئات من المجتمع المدني المقرّب من الجمعيّة.
وفي النتيجة، وخلال أسبوع واحد فقط، كان من الواضح أن اسم الصندوق السيادي دخل إلى يوميّات اللبنانيين من خلال أبواب متعددة، بعد أن بات حديث الإعلام والتصريحات ونقاشات الخبراء، وبعد أن بات الهجوم على الخطّة مسألة متكررة بشكل يومي. باختصار، حصّنت جمعية المصارف نفسها جيّدًا، استعدادًا للمنازلة التي ستبدأ فور انتخاب لجان المجلس النيابي. أمّا السؤال الأساسي اليوم، فبات التالي: أي مجهول مرعب سينتظر لبنان، بعد أن تُسقِط الجمعيّة الخطّة؟