يسعى القطاع المصرفي إلى استعادة قدرته على التسليف، كأحد أبرز أدواره التي لعبها بنجاح لعقود خلت. لكن في ظل غياب الثقة بالقطاع المصرفي جرّاء أزمة احتجاز أموال المودعين، وكذلك في ظل عدم الخروج من الأزمة الاقتصادية والنقدية التي تعيق جذب الاستثمارات واستعادة النمو الاقتصادي، هناك علامات استفهام حول قدرة المصارف على جذب الودائع الجديدة بالكميات المطلوبة لفتح باب التسليفات. ومع ذلك، المحاولة قائمة ومغلَّفة بشعار استعادة الودائع، علَّه ينجح كغطاء لاستعادة الثقة بالمصارف وتعزيز سيولتها لتأمين القدرة على التسليف. فهل ينجح الأمر؟
القدرة على التسليف
لم تستطع المصارف الخروج من أزمتها المرافقة لأزمة البلد. لكنها تحاول تسليط الضوء على أهمية وجود القطاع المصرفي في البنية الاقتصادية، وتأكيد استحالة استعادة المسار الاقتصادي السليم من دون القطاع المصرفي ونشاطه الأساسي وهو إعطاء التسليفات. وهو ما عبَّرَ عنه الأمين العام لجمعية مصارف لبنان فادي خلف، بقوله أنه “في خضم الجهود الرامية إلى إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد اللبناني، كما واستعادة الودائع، تبرز أهمية عودة القطاع المصرفي إلى ممارسة دوره الطبيعي، لا سيما في مجال التسليف”، وذلك ضمن افتتاحية التقرير الشهري للجمعية.
ولإبراز المزيد من الأهمية لعملية استعادة المصارف دورها في التسليف، ربطَ خلف بين عودة التسليفات واستعادة الودائع. ووسَّعَ خلف هدف إعادة التسليف بتوقُّع “تعزيز قدرة المصارف على رد أموال المودعين بوتيرة أسرع، وتحفيز النمو الاقتصادي وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي“.
والقدرة على التسليف تنطلق من الأموال التي تدخل إلى المصارف عبر حسابات الفريش دولار الجديدة. وهذا يستدعي بنظر خلف إيجاد آلية قانونية حمائية تصدر من مجلس النواب. فكما تحمي التعاميم الصادرة من المصرف المركزي الودائع بالفريش دولار، على مجلس النواب “إقرار قانون يضمن سداد القروض بعملة الاقتراض. وهذا الإجراء يهدف إلى منع تحقيق المقترضين من جديد أرباحاً غير عادلة على حساب المودعين”.
الاقتصاد الكاش ومخاطره
واستند خلف في موقفه إلى كلام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، خلال المنتدى العقاري الثاني الذي عقد في لبنان الشهر الماضي، إذ قال منصوري، أن “الوقت حان ليعيد القطاع المصرفي عملية التسليف وهذا القطاع يعتبر المحرك الأساسي للنمو”، مضيفاً أنه “يجب العمل على انجاز القوانين الإصلاحية وحل قضية المودعين“.
الرغبة بالعودة إلى التسليفات أمر بديهي بالنسبة للمصارف، سيّما وأنه “لا بديل عن المصارف لإعادة تطوير الاقتصاد وتحقيق النمو وتعزيز الاستثمارات”، وفق ما يؤكّده رئيس وحدة الدراسات في بنك بيبلوس نسيب غبريل، الذي يشير خلال حديث لـ”المدن” إلى عودة الكثير من الأفراد والشركات إلى المصارف “لتفادي الاقتصاد الكاش ومخاطره. فالشركات والأفراد يريدون إجراء التحويلات من لبنان وإليه لتسيير حاجاتهم وأعمالهم. وحتى اليوم، هناك تقديرات بوجود نحو 2 مليار و700 مليون دولار في حسابات جديدة بالفريش دولار في المصارف”. واستمرار فتح الحسابات الجديدة يعزّز بنظر غبريل إيرادات المصارف وسيولتها. وبالتالي، قدرتها على التسليف. علماً أن “التسليف بالدولار تراجع بين 2019 وأواخر أيار 2024 بمعدّل 83.5 بالمئة”. وتعزيز إيرادات المصارف “على المديين المتوسّط والطويل، عن طريق فوائد الإقراض وجزء من أصل المبلَغ المُقرَض، يساهم في القدرة على تسديد جزء من الودائع”.
تعزيز القدرة على التسليف، لا يعني أن المصارف لا تلعب هذا الدور بتاتاً. إذ يلفت غبريل النظر إلى أن “المصارف تقوم بالتسليف حالياً، لكن من خلال بنوك تابعة لمصارف لبنانية في الخارج. وتُسلِّف لشركات لبنانية لديها أعمال في الخارج، وبضمانات خارجية”.
ولنجاح قدرة المصارف على التسليف بالوتيرة المطلوبة لإفادة الاقتصاد، يقع على عاتق الدولة، برأي غبريل “خلق مناخ استثماري وبيئة أعمال تشجِّع القطاع الخاص على التوسُّع وخلق فرص عمل. فلبنان لا يملك مناخاً استثمارياً. فقبل الأزمة، سجَّلَ مؤشّر البنك الدولي لأداء الأعمال أن 75 بالمئة من بلدان العالم لديها بيئة استثمارية أفضل من لبنان و26 بالمئة من دول العالم وأن 70 بالمئة من الدول العربية لديها اقتصاداً تنافسياً أفضل من لبنان. بالإضافة إلى ترهّل البنية التحتية، فالمنتدى الاقتصادي العالمي صنَّفَ لبنان بأنه رابع أسوأ بلد في العالم من ناحية الكهرباء، وهو يسبق هايتي ونيجيريا واليمن… وهذه المؤشرات هي من أسباب الأزمة”.
الشيطان في التفاصيل
لا جدال في أهمية إعادة إحياء القطاع المصرفي واستعادة دوره ووظيفته، خصوصاً وأن “المصارف هي محرّك الاقتصاد، ولا أحد يختلف حول دور المصارف في الاقتصاد”، على حدّ تعبير أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، خليل جبارة، الذي يؤكّد لـ”المدن” أن نشاط الشركات والتحويلات المالية “وكل سياسات مصرف لبنان التي تحفّز الاقتصاد، يجب أن تمرّ عبر المصارف، وهذه نقطة أساسية في الاقتصاد، ومن هنا تبرز أهمية إعادة إحياء القطاع المصرفي”. لكن هل بدء الإحياء ينطلق من التسليفات، وعلى أي أساس؟
يعتقد جبارة أن إعادة إحياء القطاع المصرفي ضرورة، لكنه “جزء من برنامج تعافٍ متكامل يبدأ أولاً من تحديد المسؤوليات عن الخسائر المالية، وإقرار قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي لتفادي الأخطاء السابقة.. وعندها يبدأ الحديث عن التسليفات التي ستعطيها المصارف الجديدة بعد إعادة الهيكلة، وليس المصارف الحالية”. وعليه، فإن الحديث عن إعطاء القروض بالاستناد إلى الحسابات الجديدة، وفي الوضع الحالي للمصارف “هو كالقول عفى الله عمّا مضى، وإعطاء غطاء قانوني للمصارف لتمكينها من التسليف، وهذا خطأ كبير”.
ومن مظاهر الخطأ في الصيغة الحالية لطرح مسألة التسليف في الواقع الحالي للقطاع المصرفي، تبرز من خلال عدم وضوح اتجاهات الأموال الآتية للمصارف من عائدات الفوائد “فكم سيذهب منها كأرباح، وكيف سيتم إعادة الودائع من خلالها، ومَن يضمن عدم تحويل تلك الأموال إلى الخارج.. وغيرها من التفاصيل، والشيطان يكمن في التفاصيل، لأن المشكلة الأساسية ليست في طرح فكرة التسليف، لأنها من صلب دور المصارف”.
تبحث المصارف عن طرق لتحسين صورتها واستعادة دورها. إلاّ أن هذا المسعى لا ينجح في ظل عدم تحديد المسؤوليات والاعتراف بها وتحمُّل نتائجها. فالقفز فوق البديهيات يعني استعجال المراحل وإنما ضمن دوامة الانهيار نفسها. وهذا أمرٌ لا يؤسِّس للخروج من الأزمة وضمنه استعادة أموال المودعين ودور المصارف.