المصارف تواجه السلطة وصندوق النقد: يريدون دفننا

أطلق الحكم القضائي الصادر بحقّ “فرنسبنك” مطلع هذا الشهر، شرارة المواجهة العلنية بين السلطتين السياسية والقضائية وبين المصارف، فكان الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

المواجهة بين الطرفين تستعر منذ بداية الأزمة، لكنّها طوال تلك المدّة كانت تحت الرماد. أمّا اليوم فباتت علنيّة، وظهرت مع إعلان المصارف الإضراب، الذي اقتصر على إقفال الأبواب أمام العملاء، وعلى التهديد بإقفال الصرّافات الآليّة بين الحين والآخر، من باب الضغط إن لم تتحقّق مطالب المصارف.

في الظاهر، تُتّهم المصارف بأنّها تحاول تحقيق جملة أهداف من خلال الإضراب، وهي:

1- فرض إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول في “جلسة تشريع الضرورة” المقبلة، من خلال ممارسة الضغوط على النواب بغية إكمال النصاب المطلوب لتمرير القانون في مجلس النواب. لكنّ المصادر تؤكّد أنّ القانون “طار” بسبب ضغوط المودعين ومن خلفهم السياسيون.

2- إعلان التمرّد بوجه السلطة القضائيّة وقرار محكمة التمييز في ما يخصّ مودِعَيْ “فرنسبنك”، باعتبار أنّ الحكم، الذي فرض ردّ جزءٍ من وديعة أحد المودعَيْن بالدولار “الفريش” بدلاً من الشيك، سيُرسي سابقة ستُبنى عليها دعاوى مماثلة مستقبلاً.

3- الضغط من أجل تعطيل مفاعيل مذكّرة القاضية غادة عون التي تطالب برفع السرّية المصرفية عن حسابات العاملين في المصارف (حاليين وسابقين) على خلفيّة الهندسات المالية.

ربّما تفسّر هذه الأسباب ما حصل خلال الأسبوعين الماضيين. لكنّ المعلومات تفيد بأنّ الأزمة أعمق من ذلك بكثير، وما الأسباب أعلاه إلاّ ظاهرية، إذ تشعر المصارف بأنّها مستهدفة من جميع الأطراف في الداخل والخارج، ولا تستبعد أن يكون ثمّة قرار اتُّخذ في مكان ما خارج الحدود يقضي بالسعي إلى تطويق القطاع المصرفي تمهيداً لتدميره أو دفنه، باعتبار أنّ هذه الطريقة كفيلة بالضغط على السلطة السياسية، وخصوصاً على “حزب الله”، من أجل إجباره أو استدراجه إلى التنازل، فكانت المصارف “الخاصرة الرخوة” في هذا المسار. بدورها وجدت السلطة في هذا النهج “فرصة ذهبية” لقذف المسؤولية عن نفسها وإلباسها كاملة للمصارف.

أوّل أسبوعين من الأزمة

للتذكير بالمحاولات الحثيثة لاستهداف المصارف، تعود مصادر مصرفية بالذاكرة إلى بداية الأزمة في 17 تشرين الأول عام 2019، وتحديداً إلى أوّل أسبوعين، يوم أقفلت المصارف أبوابها أمام المودعين.

يقول أحد أصحاب المصارف لـ”أساس” إنّ طلب الإقفال لم يكن صدفة، بل كان مدبّراً وقد أذكته الظروف التي فرضها الشارع. حينذاك كان بعض أصحاب المصارف ورؤساء مجالس إداراتها مدعوّين إلى واشنطن للتباحث في شؤون مصرفية تتعلّق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك في 16 تشرين الأوّل. وفي اليوم التالي في 17 تشرين الثاني، التهبت الساحة اللبنانية بالتظاهرات وقطع الطرقات.

فجأة جاءت تعليمات من مصرف لبنان تقضي بـ”ضرورة الإقفال”. كانت تلك الخطوة بمنزلة “الصاعق” الذي أدّى إلى انفجار الأزمة: انهارت ثقة المودعين بالقطاع المصرفي بعد تهافت الناس دفعة واحدة للحصول على ودائعهم، في حين لم يكن أيّ مصرف مهيّأً لدفع تلك الودائع بالدولارات أو الليرات “الكاش”، ولهذا انهار كلّ شيء خلال أيام.

لا يستبعد المصدر أن يكون “الإقفال الممنهج” في ذلك الوقت مقصوداً من أجل وصولنا إلى ما وصلنا إليه، فيما يربط مصدر مصرفيّ آخر الانهيار بقرار حكومة حسان دياب إعلان التعثّر وعدم دفع الديون ورفض دفع السندات المستحقّة من “اليوروبوندز”.

ينظر رئيس مجلس إدارة مصرف آخر إلى تلك الحادثة بمنظور أقلّ تشاؤماً، فيعتبر في حديث مع “أساس” أنّ ظروف ما بعد 17 تشرين الأول فرضت على المصارف الإقفال. ويقول إنّ الأجواء المحتقنة في الشارع كانت “ستحول دون فتح أبواب المصارف، ولو فتحنا في تلك المرحلة لكنّا عرضنا أنفسنا وموظّفينا لخطر الشديد”. لكن على الرغم من ذلك لا يستبعد أن يكون قرار الإقفال “مدبّراً” من أجل إيصال المصارف إلى ما وصلت إليه اليوم.

يعتبر المصرفيّ نفسه أنّ سلوك “صندوق النقد الدولي” تجاه لبنان وخطة التعافي المفترَضة يعطيان إشارات إلى ذلك التوجّه، ويرى أنّ المصارف اليوم “شبه مطوّقة” من جميع الأطراف في الداخل والخارج، فكيف يحصل ذلك من دون تنسيق وإخراج مُحكَمَيْن؟

“كمّاشة” بثلاثة رؤوس

أمّا اليوم فتعتبر المصارف أنّها مستهدَفة من ثلاث جهات: السلطة، صندوق النقد الدولي، والمودعين.

1- السلطة: بحسب المصادر المصرفية، التي اشترطت عدم نشر اسمها، أخفت السلطة السياسية منذ البدايات حقيقة الوضع الماليّ عن الرأي العامّ الذي تأثّر بالطروحات التي سوّقها قياديون في ثورة 17 تشرين، وهو ما أفضى مع مرور الوقت إلى ميل متزايد إلى “التصويب” على المصارف. بذلك أغفلت السلطة السياسية وأحزابها وتيّاراتها الارتكابات التي تدينها، والتي أدّت إلى تبخّر أموال المودعين والمصارف على السواء. وترفض السلطة نفسها اليوم إقرار “الكابيتال كونترول”، مُبقيةً بذلك القطاع المصرفي مكشوفاً أمام الدعاوى القضائية على غرار تلك الحادثة الخطيرة مع “فرنسبنك”.

يقول مصدر إداريّ في أحد مصارف “ألفا” لـ”أساس” إنّ “من يريد المحاسبة الفعليّة فسيكون عليه محاسبة الجهات التي أدارت قطاع الكهرباء لسنوات طويلة، وتسبّبت بالعجز في الميزان التجاري، ومن هذا المنطلق نسأل: لماذا لا يحاسبون من اتّخذ قرار التعثّر أو من اتّخذ قرار دعم السلع والموادّ المستوردة التي استنزفت احتياطات مصرف لبنان التي هي في الأصل أموال المودعين؟”.

أمّا قرار إقفال المصارف اليوم فيؤكّد المصدر أنّه “رمزيّ” ولم يؤثّر على المواطنين بالشكل الذي تصوِّره وسائل الإعلام، لكنّه في المقابل بعث رسالة تحذير إلى السلطتين السياسية والقضائية. ويستغرب “التهويل” من إقفال المصارف لبضعة أيام، فيما لم يتحرّك أحد يوم اعتكفت السلطة القضائية لأشهر وأضرب موظّفو القطاع العامّ قبل سنة ونصف!

2- صندوق النقد الدوليّ: يرفض وفد صندوق النقد الدولي منذ أن وصل إلى لبنان، الاستماع إلى وجهة نظر المصارف: “رفض الجلوس معنا، وهو اليوم يرفض مقترحاتنا من أجل تقاسم المسؤوليّات”، يقول مصدر من جمعية المصارف في حديث إلى “أساس”. ويضيف: “أغلب البرامج التي قدّمها الصندوق إلى كثير من الدول التي عانت أزمات اقتصادية مشابهة لتلك التي في لبنان، لم تمانع اللجوء إلى أصول الدولة من أجل إيجاد الحلول… إلّا في حالة لبنان”، وهذا في نظره محطّ استغراب.

عليه تتشكّك جمعية المصارف في “جدّيّة” الصندوق في التعامل مع الأزمة اللبنانية لأنّ المطالب التي وضعها خلال تلك المفاوضات لا ترتقي إلى أن تكون حلّاً للأزمة اللبنانية أبداً.

بناءً على هذا، يسأل مصدر مصرفي: “أليس غريباً ألّا يأتي الصندوق على ذكر القطاع العام لا من قريب ولا من بعيد وهو لبّ الأزمة؟ لماذا لم يُلزم السلطة بهيكلته؟”، ويجيب ساخراً: “يبدو أنّ الصندوق استسهل تلبيس الأزمة للمصارف ما دام الضغط على السلطة السياسية وجرّها إلى الإصلاحات الضرورية أمراً مستبعداً”. ولا ننسى أنّ القطاع العامّ هو أساس العلاقة الزبائنية بين الأحزاب الحاكمة والموظّفين من جماهيرها وناخبيها.

يُستدلّ على ذلك من الشروط التي فرضها الصندوق (هيكلة القطاع المصرفي، التدقيق في حسابات أكبر 14 مصرفاً، توحيد سعر الصرف، رفع السرّية المصرفية…)، والتي تخلو من أيّ شرط يتعلّق بسلوك السلطة، وذلك أنّ طرح تلك الأزمات مسبقاً سيؤدّي إلى تقاعس السلطة عن تنفيذ الإصلاحات كاملة، فكان الحلّ الأسرع التصويب على المصارف.

3- المودعون: في نظر المصارف، شكّلت الضغوط التي يمارسها “منتحلو صفة المودعين” أزمةً إضافية. يكشف مصرفيون أنّ أغلب هؤلاء “ليسوا مودعين أصلاً. بل هم تجمّعات تحرّكها جهات سياسية عن بُعد. هذه الجمعيّات مموّلة من سياسيين معروفين بالأسماء يستخدمونها في المناكفات السياسية والمزايدات، ولحسابات شخصية ضيّقة، فيما المودعون الفعليّون والحقيقيون يلتزمون الصمت ولا تعبّر تلك الجمعيّات عن هواجسهم ومطالبهم”.

تحاول هذه الجمعيّات التصعيد بوجه المصارف على وقع الضربات التي توجّهها السلطة إلى المصارف، فتتماهى معها من خلال الدعوة إلى زيادة الدعاوى القضائية ضدّ المصارف.

على سبيل المثال عن تلك الجهات السياسية التي تقف خلف تلك الجمعيات، يكشف المصدر نفسه أنّ النائب فؤاد مخزومي يقوم بتمويل جمعية “صرخة المودعين”، وذلك من ضمن سعيه إلى الوصول إلى رئاسة الحكومة. وهذا مثال عن أسلوب عمل تلك الجمعيات التي بدل أن تهتمّ بمصالح المودعين، تدخل في دهاليز السياسة على قاعدة “علّي وخود جمهور”. وهذا طبعاً ليس من مصلحة المودعين.

ماذا فعلت المصارف مقابل ذلك؟

يعترف أحد أصحاب المصارف: “لقد أخطأنا لأنّنا لم نقابل تلك الحملات بأخرى مماثلة لها. لم تتحرّك المصارف بشكل منفرد، وتأخّرت في خوض “معركة” الرأي العام نتيجة الجوّ الذي ساد منذ بداية الأزمة. يومذاك تقاطعت مصالح السلطة مع بعض التغييريين في رمي كامل المسؤولية على المصارف، فأصبح القطاع المصرفي كلّه محشوراً في الزاوية وفي موقع الدفاع”.

ويضيف: “في حينه كانت المصارف أمام خيارين: الأول هو أن تخاف فلا تُقدِم على أيّ تحرّك. والثاني أن ترصّ صفوفها وتنظّم حملة إعلامية كبيرة يكون الهدف منها توضيح حقيقة الأمور والتصدّي لخطّة السلطة”. لكنّها لجأت إلى الخيار الأول لأنّها “لم تكن مقتنعة بأنّ السلطة السياسية ستقدم على هضم أموال المصارف (وبالتالي أموال المودعين) وتحميل القطاع المصرفي كامل المسؤولية”.

في المحصّلة، ستشتدّ المواجهة، وقد يكون إضراب المصارف بداية مواجهة مفتوحة وليس معركة عابرة. وسيزيد في منسوبها الانكشاف الاقتصادي وارتفاع سعر صرف الدولار بشكل جنوني مع وصوله إلى عتبة 80 ألف ليرة، إضافة إلى الفراغ الرئاسي المتواصل على وقع إخفاقات الداخل والخارج في اجتراح حلّ أو تسوية.

مصدرأساس ميديا - عماد الشدياق
المادة السابقةعزل لبنان ماليا عن العالم؟!
المقالة القادمةالدولار يلتهم الأخضر واليابس… والفوضى تعمّ الأسواق