تختلط في 16 حزيران مشاعر الإمتنان للمهاجرين مع الأسف على أوطان تنفّر أبناءها. في مثل هذا التاريخ من كل عام تحتفل “الامم المتحدة” باليوم الدولي للتحويلات العائلية “IDFR”. حيث يساهم أكثر من 200 مليون عامل مهاجر بتحسين حياة 800 مليون من أفراد أسرهم في الاوطان، ولا سيما المتخلفة منها. إنسانياً يصح الاعتذار من كل مهاجر أرغم على ترك بلده. أما اقتصادياً، فيستحقون الشكر لانهم المحرك الاقتصادي في الدول المضيفة، وتحويلاتهم “شريان حياة” للعالم النامي، على حد وصف أمين عام “الامم المتحدة” أنطونيو غوتيريش.
إحتل لبنان في العام 2021 المرتبة الثالثة عربياً بعد كل من مصر (31.5 مليار دولار)، والمغرب (9.6 مليارات دولار) من حيث تلقي التحويلات، بقيمة ناهزت 7 مليارات دولار. أمّا إذا قيست قيمة التحويلات مع الناتج المحلي الاجمالي، ومتوسط دخل الفرد، فان درجة لبنان ترتفع إلى المرتبة الاولى. فالتحويلات إلى لبنان تشكل 32 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر من قبل البنك الدولي بـ 21.5 مليار دولار، في حين تبلغ هذه النسبة 7.8 في المئة فقط في مصر، التي تتمتع بناتج محلي يبلغ حوالى 400 مليار دولار. كما تشكل قيمة ما يرسله العاملون المهاجرون المقدرة في المتوسط العالمي بـ 300 دولار أميركي، في حال احتسبت على سعر صرف اليوم، حوالى 71 في المئة من متوسط دخل موظفي القطاع العام البالغ 2.5 مليون ليرة، و54 في المئة من متوسط دخل موظفي القطاع الخاص الذي أصبح 4 ملايين ليرة. هذه النسب قد تكون الاعلى عالمياً وليس فقط عربياً.
التحويلات إلى لبنان ترتفع
مثله مثل كل القضايا المهمة التي تخصها الأمم المتحدة بيوم عالمي لجلب انتباه الناس إليها، فان اليوم العالمي للتحويلات العائلية “International Day of Family Remittances” يهدف إلى زيادة الوعي حول تأثير هذه المساهمات على ملايين الأسر والمجتمعات بأكملها في جميع أنحاء العالم، والبحث بكيفية تفعيلها أكثر. وبالفعل فان الجهود العالمية المبذولة أثمرت على الصعيد العالمي زيادة التحويلات المالية إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بنسبة 51 في المائة خلال العقد الماضي. حيث ارتفعت التحويلات من 296 مليار دولار أميركي في عام 2007 إلى أكثر من 554 ملياراً في عام 2019.
على الصعيد اللبناني لم تنخفض التحويلات الواردة نتيجة حالات الإقفال والاغلاق التي رافقت جائحة كورونا في الدول المضيفة خلال العامين المنصرمين. بل العكس، فان مسار التحويلات ما زال تصاعدياً، بحسب ما تبين أرقام الشركة الرائدة في تحويل الأموال OMT. حيث تلحظ الشركة التي تستحوذ على أكثر من 70 في المئة من سوق الحوالات المالية، زيادة التحاويل الواردة من الخارج بنسبة 8 في المئة في النصف الأول من العام 2022 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2021. وقد بلغ معدل قيمة التحاويل الواردة من الخارج 500 دولار أميركي، تلقاها نحو 250 ألف مستفيد شهرياً بالدولار النقدي “FRESH”. وأظهرت إحصاءات OMT أن 70 في المئة من التحاويل الواردة بلغت أقل من 500 دولار، في حين أن التحاويل التي تقل عن 200 دولار بلغت نسبتها 37 في المئة. ووصلت التحاويل من حوالى 170 دولة، في مقدّمها أستراليا، الولايات المتحدة الأميركية، دول الخليج، كندا وألمانيا.
آخر الدولارات الواردة
التدفقات النقدية من العمال المهاجرين التي تتجاوز على الصعيد العالمي ثلاثة أضعاف المساعدة الإنمائية الرسمية، وتفوق إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، تشكل بالنسبة إلى لبنان الفرق بين الحياة والموت. فما يحوله المغتربون اللبنانيون يمثل الجزء الاكبر من الدولارات الداخلة. فالاستثمارات الأجنبية المباشرة متوقفة، وعوائد السياحة لن تتجاوز 2 مليار دولار في أحسن التقديرات، وقسم لا بأس به من مردود الصادرات المقدرة بحدود 3.5 مليارات دولار يبقى في الخارج ولا يدخل إلى لبنان.
عوائق زيادة التحاويل
أمام هذا الواقع لا يكفي أن تستكين السلطة الرسمية إلى غيرة المغتربين على أهلهم وأرضهم، بل عليها أن تلاقيهم إلى نصف الطريق لتشجيعهم وتحفيزهم على التحويل. ويمكن قسمة العوائق التي تحول دون تعاظم المبالغ وزيادتها إلى 3 أقسام رئيسية:
الاول تقني، إذ تعتبر العمولات والرسوم المرتفعة على تحويل الاموال، عائقاً جدياً. ففي حين تبلغ متوسط التكلفة على الصعيد العالمي 7 في المئة من المبلغ المرسل، تتجاوز هذه النسبة في لبنان 10 في المئة إذا تم التحويل عبر المصارف. فتحويل مبلغ 500 دولار مثلاً (يشكل معدل قيمة التحاويل الواردة) عبر القطاع المصرفي يكلف المرسل نحو 30 دولاراً، والمستلم حوالى 20 دولاراً. فيكون مجموع التكلفة 50 دولاراً تشكل نسبتها 10 في المئة من المبلغ المحوّل. أما عبر شركات تحويل الاموال فان النسبة تختلف بحسب البلد المحول منه، إلا أنها تبلغ في المتوسط 7 في المئة. في المقابل تهدف الغاية “ج – 10” من “أهداف التنمية المستدامة” إلى خفض تكاليف المعاملات إلى أقل من 3 في المائة بحلول عام 2030.
الثاني سياسي، ويتعلق بفقدان المغتربين عامل الثقة بالدولة والمؤسسات وإمكانية التغيير. “الامر الذي دفعهم بعد الازمة إلى حصر الغاية من تحويلاتهم بتأمين شبكة أمان لعائلاتهم، وليس للاستثمار وتحفيز النمو”، بحسب مصدر مطلع. وزيادة تحويلاتهم كماً ونوعاً مرتبطة برأيه بأكثر من عامل داخلي وخارجي منها:
– وجود قطاع مصرفي سليم لا يثير خوف المغتربين من الاستيلاء على أموالهم وتضييعها، ويستطيع في المقابل أن يوظف الودائع الناتجة عن التحويلات في الاقتصاد الحقيقي.
– البدء بالاصلاحات التي تخلق فرص استثمار جدية يمكن التوظيف بها.
– وضع العاملين اللبنانيين في الاغتراب بعد الازمة الذين تحولوا إلى “المسترخصين الجدد”. حيث تتدنى رواتبهم وتتقلص إمكانية تحويلهم لمبالغ مادية مقبولة لذويهم في الداخل.
الثالث معنوي، إذ يحتاج المغتربون إلى أكثر من المؤتمرات الفولكلورية لشد عصبهم وتعزيز ارتباطهما الاجتماعي والثقافي مع لبنان، واللذين يتحولان بدورهما إلى ارتباط اقتصادي وطيد. فلبنان الكبير بحسب المصدر “لا يتمثل بالرقعة الصغيرة المحددة في العام 1920 إنما هو الجمع بين المقيمين والمغتربين على وسع العالم. وكلما كان الوطن الصغير معافىً سياسياً واقتصادياً ويمتلك بنية مؤسساتية قوية ونظامية، وحوكمة رشيدة، وقضاء مستقل ونزيه… كلما كبرت استفادته من مغتربيه وزادت صلة الوصل بهم. وليس العكس كما يحاول البعض أن يوحي. فالمساعدة في الأزمات عادة ما يكون نطاقها ضيقاً جداً ومحصوراً، ولا يشكل إلا جزءاً بسيطاً من الامكانيات الدفينة عند المغتربين”.
تحويلات المغتربين تتقاطع مع 7 أهداف من أصل 10 أهداف للتنمية المستدامة وضعتها الامم المتحدة للفترة الممتدة بين 2015 و2030. فهذه التحويلات تساهم بالقضاء على الفقر والجوع وتعزز الصحة والتعليم والنظافة والعمل اللائق ونمو الاقتصاد والحد من عدم المساواة. وما على الدول المستقبلة، وفي طليعتها لبنان، إلا حماية الدولة وصونها لتتحول هذه التحويلات من مساعدة عائلية إلى خلق فرص استثمارية وفرص عمل ونمو حقيقي.