تعرف الموازنة العامة للدولة على أنها بيان تقديري تفصيلي معتمد يحتوي على الايرادات العامة التي يتوقع أن تحصل عليها الدولة، والنفقات العامة التي يجب انفاقها خلال سنة مالية قادمة.
تعتبر الموازنة بمثابة البرنامج المالي عن سنة مالية مقبلة بغية تحقيق أهداف محددة في إطار الخطة العامة للتنمية الإقتصادية والإجتماعية المعتمدة من قبل الدولة.
تكون الموازنة في حالة عجز عندما تكون مجموع نفقاتها أكبر من مجموع إيراداتها، والعكس صحيح في حالة الفائض حين تفوق الإيرادات النفقات.
تظهر الموازنة العامة طبيعة السياسة المالية التي تضعها الحكومة فتكون اما سياسة توسعية اما سياسة انكماشية. فالسياسة التوسعية تستخدمها الحكومة بهدف زيادة النمو من خلال زيادة الانفاق سيما ومنه الانفاق الاستثماري ويمكن أن يموَّل هذا الانفاق من خلال عجز الموازنة أو ما يعرف بالتمويل بالعجز.
أما السياسة الانكماشية فتستخدمها الحكومة لضبط التضخم فتلجأ إلى رفع الضرائب مثلا لتقليص الانفاق الاستهلاكي والاستثماري على حد سواء.
لم يكن العجز في الموازنة العامة للدولة اللبنانية بغية التوسع في الاستثمار خدمة للسياسات المالية، بل كان دائماً خدمة للدين بشكل عام والجزء الأكبر منه تحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان.
إن أكثر من 30 مليار دولار هو مجموع العجز التراكمي بين العامين 2012 و2018 ولو قدر لهذا العجز أن يستثمر في الإقتصاد اللبناني لكان قد أعطى حجم إقتصاد يضاعف حجم الناتج المحلي الإجمالي الحالي.
لقد وصلت نسبة عجز الموازنة في العام 2018 إلى 11.5% من الناتج المحلي ونسبة إجمالي الدين العام إلى الناتج المحلي فاقت الـ 150%، أما نسبة النمو الحقيقي في الإقتصاد فهي أقل من 1%، كما يعاني لبنان من عجز في ميزان المدفوعات.
هناك أسباب عديدة دفعت إلى هذا التراجع منها التأخير في إنتخابات الرئاسة الأولى لأكثر من سنتين والتأخير في تشكيل الحكومة لتسعة أشهر، ناهيك عن الصفقات في التلزيمات والهدر والفساد في المالية العامة، بالاضافة إلى إتخاذ قرارات شعبوية أرهقت المالية العامة كاقرار سلسلة الرتب والرواتب بالرغم من احقيتها.
يتوجب حالياً على الدولة إعادة التوازن المالي للمالية العامة من خلال رفع الإيرادات وخفض الانفاق. المطلوب العمل على زيادة الإيرادات من خلال تحفيز النمو الإقتصادي وليس من خلال فرض ضرائب جديدة.
إن فرض ضرائب جديدة خصوصا الضرائب غير المباشرة أو تلك المفروضة على ذوي الدخل المحدود له تداعيات سلبية على النمو الإقتصادي خصوصاً واننا في حالة انكماش. أن الضرائب تزيد من حالة الانكماش لانها تخفض حجم الاستهلاك وحصته في لبنان كبيرة إذ أن نسبة النفقات الإستهلاكية للقطاع الأسري إلى الناتج المحلي تشكل 92%.
لذلك يجب أن لا تطرح الحكومة أي تغيير في السياسة الضريبية للعام 2019 لا سيما وأننا قد أصبحنا في الربع الثاني منه ولم تقر الموازنة العامة بعد وأن القطاع الخاص قد أعد موازنته حكماً، فأن أي تعديل على السياسة الضريبية بغض النظر عن طبيعته سيحدث ارباكاً. لذلك، من الأفضل أن يعاد النظر بالسياسة الضريبية في الموازنة المقبلة للعام 2020 باعتماد الضريبة التصاعدية على الأرباح وتخفيض العبء الضريبي عن ذوي الدخل المحدود.
إن زيادة الايرادات يجب أن تتم من خلال تحسين الجباية إذ أن الفجوة الضريبية بحسب التقرير الأخير لبنك عودة تقدر بنحو 5 مليار دولار (هذه الفجوة تساوي عجز الموازنة العامة تقريباً).
إن مجمل هذه الفجوة تتشكل من التهرب الضريبي على الأرباح إذ أن نسبة تطور الإيرادات الضريبية من أرباح الشركات تشكل 8.5% من الناتج المحلي بينما تطورمصادر الإيرادات الأخرى تشكل 12.8% وهذا يعني أن مجمل الإيرادات الضريبية 21.3% فقط في حين أن الايرادات الضريبية إلى الناتج المحلي في الدول متوسطة الدخل يجب أن تصل إلى 30% وأكثر من الناتج المحلي.
يجب أيضاً تعزيز الإيرادات من خلال وقف التهرب الجمركي المقدر بحوالي 900 مليون دولار منها 500 مليون دولار من تهريب البضائع من خلال المعابر غير الشرعية و400 مليون دولار تهرب من خلال المرافق الشرعية وذلك من تخفيض الفواتير أو التزوير بنوع البضاعة أو تخفيض حجم البضاعة. المطلوب أيضاً تحسين الإيرادات من خلال تسوية التعديات على الاملاك العامة وتعزيز جباية فواتير الكهرباء (بحسب المختصين في هذا القطاع أن تخفيض الهدر في الكهرباء بنسبة 15% يؤدي إلى زيادة عائدات المؤسسة حوالي 250 مليون دولار بأسعار اليوم).
أما تخفيض النفقات فهو جانب مهم لاعادة التوازن الى المالية العامة. إن النفقات في الموازنة العامة تتوزع على الشكل التالي:
رواتب وأجور، خدمة الدين العام وتحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان وهذا يشكل 81% من مجموع النفقات. أما المتبقي 19% فهي نفقات تشغيلية واستثمارية.
بالنسبة للكتلة الأولى من الرواتب والأجور، صحيح أن هذه السلسلة التي أقرت للقطاع العام بتاريخ 21 آب 2017 قد أرهقت المالية العامة غير أن العاملين في القطاع العام يستحقون هذه السلسلة وقد رتبوا نفقاتهم على اساسها وكثر منهم التزموا بقروض مصرفية. لذلك فأن أي مساس أو تخفيض من هذه الرواتب سيؤدي إلى تعثر للقطاع الأسري من جهة النفقات الاستهلاكية وينعكس سلباً على الايرادات (الضريبة على القيمة المضافة) ويؤدي إلى ركود في الاقتصاد وإلى تعثر في دفع المستحقات المصرفية ما يؤدي إلى إرباك في أكثر القطاعات الإقتصادية صلابة ومتانة (القطاع المصرفي).
أما في ما يخص بعض الرواتب الخيالية التي تكلم عنها وزير المالية في برنامج صار الوقت بتاريخ 18 نيسان 2019 فلا بد من إعادة النظر بها واعادة النظر بالامتيازات وبالنظام التقاعدي بشكل عام.
بالنسبة للكتلة الثانية في النفقات لخدمة الدين العام، فإن 75% من الدين العام محمول من قبل المصرف المركزي والمصارف اللبنانية مما يعني أن دور القطاع المصرفي أساسي في خفض حجم النفقات في الموازنة من خلال خفض خدمة الدين العام، إما بإكتتاب بفائدة صفر % كما حصل خلال باريس 2 في العام 2004 أو بتخفيض خدمة الدين العام. لقد صرح رئيس جمعية المصارف جوزيف طربية بأن المصارف على استعداد للمساهمة بخفض الدين العام في حال إلتزمت الحكومة بالإصلاحات المتفق عليها في مؤتمر سيدر الذي عقد في شهر نيسان 2018 في باريس.
بالنسبة للكتلة الثالثة من النفقات وهي التحويلات إلى مؤسسة الكهرباء، نأمل بأن ينعكس إقرار خطة الكهرباء في مجلس الوزراء ولاحقاً في مجلس النواب إيجاباً على المالية العامة بالرغم من ضبابية القانون لجهة تشكيل مجلس إدارة وهيئة ناظمة لقطاع الكهرباء بعد تجويف الهيئة الناظمة وسلب صلاحياتها لصالح الوزير. نأمل بأن يتوقف استنزاف المواطن اللبناني والخزينة بشكل عام من قبل هذه المؤسسة الذي ارهقت الخزينة وراكمت أكثر من 45% من الدين العام في لبنان.
أما بالنسبة لكتلة النفقات التشغيلية، فلا بد من اقفال ودمج بعض السفارات في الخارج وتخفيض هذه النفقات التشغيلية إلى النصف. كذلك لا بد من تخفيض ايجارات المباني المستأجرة من قبل الحكومة ومؤسساتها إلى النصف ودفع النصف الآخر بموجب سندات بفائدة صفرية لمدة خمس سنوات. وهنا يمكن التقشف في النفقات الإستهلاكية إلى حدود الـ 50% من هذه النفقات.
بعد الانتهاء من إعداد وإقرار موازنة العام 2019 مع بعض التقشف والعمل بجهد على تحسين الجباية لزيادة الايرادات، لا بد من البدء بإعداد موازنة 2020 على أن تكون موازنة التخطيط والبرمجة.
إن هذا الأسلوب من الموازنات قد ظهر نتيجة الحاجة إلى ربط البرامج الحكومية بالخطة العامة للدولة. فهذا الأسلوب يهدف إلى الربط بين الاعتمادات وبين تحقيق الأهداف المخططة ويعتبر وسيلة لاتخاذ القرارات التي تتعلق بالمفاضلة بين البرامج البديلة والمتنافسة لتحقيق أهداف معينة وبذلك فهو يجمع بين الابعاد الثلاثة للموازنة (تخطيط، تنفيذ، رقابة).
ختاماً، نحن أمام فرصة لتجاوز المأزق خاصة أن المجتمع الدولي الذي يراقب كل التطورات والسجالات يدعم الإجراءات الجدية التي قد تتخذ من أجل تجاوز مأزق العجز. المطلوب من الحكومة في تلك المرحلة خطوات جدية وشفافة مبنية على مصارحة الشعب اللبناني بواقع الحال وبالخطوات المنوي اعتمادها بعيدا عن المزايدات والشعبوية والاتهامات المتبادلة بالفساد.
تكون البداية في تطبيق القوانين لان في ذلك وحده خفض لخدمة الدين العام عبر تراجع الفوائد ما يؤدي إلى زيادة الاستثمارات ورفع نسب النمو وخلق فرص عمل وزيادة المداخيل والايرادات.
فالاقتصاد ثقة!