بالعودة إلى الموازنة، فإن نشرها وادعاء إتمام خطوطها العريضة، في بلد يعاني أخطر أزمة وجودية في تاريخه، لا بل أكبر أنهيار اقتصادي مالي في التاريخ العالمي الحديث، قبل الإفصاح عن الخيارات الكبرى لـ”خطة التعافي” التي طال انتظارها، إنما يقع في خانة من إثنين: إما الجهل المطبق للعلاقة الحاكمة بين الخطة والموازنة، أو هو نهج اللا-شفافية والأجندات والمصالح المستترة في صنع الخيارات والقرارات وفرضها كأمر واقع، ثم التباري في التبرير والتبرؤ من آثامها وتقاذف المسؤولية بعد خراب البصرة. وأغلب الظن أنها مزيج من الاثنين مع أرجحية الاحتمال الثاني، الذي يشكل القاعدة الذهبية ونظام التشغيل الأساسي لنهج المحاصصة والفشل والتبعية المكرّس في السنوات الأخيرة.
توزيع الخسائر بين القطاع العام، الخزينة ومصرف لبنان، والمصارف، والمودعين، وبين فئات المودعين أنفسهم، ومساءلة كل طرف بحسب مسؤولياته، ثم تغريمه بقدر مسؤولياته وامكاناته، ومن ضمن رؤية متوازنة للمصلحة العامة، هو السؤال الأول المتعلق بالاقتصاد السياسي للبنان للمرحلة المقبلة، وبمثابة حجر الأساس للبنيان الاقتصادي والاجتماعي فيه. التوزيع المرتقب للخسائر سيرسم الملامح التأسيسية لكل من القطاع العام، النظام المصرفي، بيئة الأعمال، والطبقات الاجتماعية في لبنان في السنوات العشر المقبلة.
ثمة قضية ثانية لا تقل أهمية في رسم ملامح أية موازنة، ويفترض أن تقع أيضاً في صلب “خطة التعافي” الموعودة، هي التدفقات المالية الخارجية. والأسئلة في هذا المجال عديدة. مثلاً، عند أي مستوى من القروض والمساعدات الخارجية المرتقبة وضعت أرقام الموازنة؟ وما هي السيناريوهات الراجحة في هذا المجال؟ وعلى أي فرضيات سياسية أقيمت هذه السيناريوهات، ليس ربطاً بصندوق النقد وحسب، بل بمجمل علاقات لبنان الدولية والعربية؟ يخطئ من يعتقد أن هذه المسألة الجوهرية محايدة أو من دون تأثير في رسم ملامح الموازنة، أقلُه في عنصر لا مفرّ من التعامل معه هو سعر الصرف.
لا يفصح نص الموازنة عن سعر الصرف الذي تتبناه. بل يترك الأمر عمداً إما للتلميح من خارج النص (15 ألف ليرة للدولار حسب ما سرّب إلى إحدى وكالات الأنباء الأجنبية)، أو للتحديد الاستنسابي اللاحق من قبل الحكومة أو الوزارة، كما ورد في إحدى المواد. التحديد اللاحق هو بالطبع هرطقة غير مسبوقة في أي موازنة تستحق هذه التسمية، لأنه يضرب الوظيفة الأساسية لقانون الموازنة، ألا وهي القدرة على الترقب والاحتساب، التي ستنتفي حتماً بفعل الاستنسابية في تحديد كلفة الإنفاق الجاري. كما يفقد الشعب وممثليه أي قدرة حقيقية على مساءلة السلطة والحكومة ومحاسبتها عن مصير أمواله.
تبقى مسألة أساسية تتعلق بالإنفاق الاجتماعي. هل تعتقد الحكومة وخلفها سلطات الأمر الواقع، أنها، في ظل الانهيار الكارثي والجحيم الاقتصادي الذي انحدرنا إليه، تستطيع النفاذ بموازنة تستحق هذ التسمية، ولا تتضمن نظرة مختلفة جذرياً إلى موضوعي الحماية الاجتماعية وشبكة الأمان الاجتماعي، وهو ما يجب أن تتضمنه أي خطة تعافٍ، أقلّه استجابةً لتوصيات صندوق النقد والبنك الدولي، اللذين يدركان بحكم تجربتهما العالمية أن التنفيذ الناجح لأي خطة يجب أن يترافق مع توفير الاعتمادات اللازمة لتأمين الاستدامة الاجتماعية، على صعد الغذاء والمسكن والصحة والتربية.