لطالما كان أمراً «عادياً» في لبنان أن ينتمي أصحاب المصارف وأعضاء مجالس ادارتها الى الطبقة الميسورة والغنية وفئة والنافذين. وقلما طرحت اسئلة جدية، قبل تشرين 2019، كيف جمع هؤلاء ثروات طائلة او حتّى كيف أصبح معظم موظفي المصارف في المراكز الادارية الاساسية أغنياء، علماً ان غالبيتهم بدأ عمله المصرفي برواتب عادية لا تخوّل صاحبها تكوين ثروة حتّى لو واظب على الادّخار لسنوات عديدة!
وكان بالنسبة لفئة كبيرة من اللبنانيين أمراً مسكوتاً عنه أيضا ان يكون حاكم مصرف لبنان السابق صاحب ثروة طائلة تخوّله شراء العقارات في دول عدّة والاستجمام على متن اليخوت والسفر بطائرات خاصة، كونه كان يحرص على تمرير مقولات انه جمع ثروته نتيجة عمله المصرفي السابق في الخارج قبل توليه سدّة الحاكمية!
قبل تشرين 2019 وقبل اكتشاف تبخّر اموال المودعين، لم يكن احد أيضا يُستفزّ من ثروات كبار المسؤولين والمدراء في البنك المركزي ومن ثروة مستشارة حاكم البنك المركزي علماً انها بدأت عملها براتب يبلغ نحو الفي دولار فقط !
تهريب أموال
بعد ان انفجرت الازمة المالية بوجه المودعين وبعد ان هرّب النافذون من المصرفيين والسياسيين وغيرهم اموالهم الى الخارج، بدأت التساؤلات والاتهامات حول مصادر ثروات المصرفيين. إلا انها بقيت ولغاية اليوم «شفهية» ولم تتبلور قضائياً بشكل حاسم للجدل. علماً ان الاطر القانونية متاحة لمحاسبة رؤساء واعضاء مجالس ادارة المصارف ومفوضي المراقبة حتّى قبل تعديل قانون السرية المصرفية في 2022 لجهة تسهيل كشفها.
تقديرات غير رسمية
في غياب الارقام الرسمية او الدقيقة حول حجم ثروات المصرفيين اللبنانيين ومن دون اللجوء الى رفع السرية المصرفية عن رؤساء واعضاء مجالس ادارة المصارف والمدراء التنفيذيين، تبقى التقديرات والتكهنات هي الوحيدة المتوفرة. إلا ان ارقام الارباح والعمولات والفوائد التي حققوها، على سبيل المثال لا الحصر، من الهندسات المالية والقروض المدعومة او حتى القروض التي منحوها لانفسهم من دون فوائد، ومن الصفقات المشبوهة والتحويلات المالية الى الخارج بعد 17 تشرين 2019 وغيرها من الممارسات غير المشروعة، تؤكد ان غالبيتهم جمعت ثروات هي الآن في ملاذات ضريبية في الخارج.
وثائق تفضح
وللمثال، كشفت وثائق «فنسن»عن تورط 5 مصارف لبنانية («عودة»، «فرست ناشيونال بنك»، «فرنسبنك»، «سوسيتيه جنرال» و»بيبلوس «) في تسهيل نقل اموال الى الخارج، وعمولات تقاضاها رؤساء مصارف لتنفيذ معاملات معينة، والتي ساهمت في زيادة حجم ثرواتهم. كما ان تسريبات «وثائق باندورا» سلطت الضوء على التهرب الضريبي وإخفاء الثروات والأموال في الجنات الضريبية عبر الاستعانة بالشركات الخارجية (أوفشور) والطرق الملتوية لاخفاء مراتع الثروات وحجمها. وتصدّر لبنان لائحة عدد شركات “الأوفشور” التي تأسّست عبر شركة Trident Trust، نتيجة لجوء سياسييه ومصرفييه ورجال أعماله إلى تسجيل شركاتهم في «الجنات الضريبية».
مليارات… مليارات
يمكن تكوين فكرة بسيطة عن حجم الثروات التي كوّنها رؤساء واعضاء مجالس ادارة المصارف بالنظر الى الارباح التي وزّعتها البنوك على مالكي الاسهم، علماً ان تلك الارباح ليست كلّ ما حققته المصارف، بل فقط ما قامت بتوزيعه. فبين العام 2011 و2018 على سبيل المثال، بلغ اجمالي انصبة الارباح 7 مليارات و246 مليون دولار، تمّ تحويل غالبيتها الى الخارج. إلا ان تلك الارباح لا تشمل طبعا الارباح غير الشرعية المتأتية عن العمولات التي يتقاضاها بعض الرؤساء والمدراء التنفيذيين وغيرهم والتي لا يتم التصريح عنها ولا تدخل في ميزانيات المصارف، والتي استمرّت بعد الازمة من خلال عمليات كثيرة مثل «صيرفة».
ان الصفقة الاكبر بالنسبة للمصارف، كانت الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان والتي انتجت للمصارف بالاضافة الى الارباح السنوية العادية، مليارات من الدولارات في العام 2015-2016 ولاحقاً، علما بان الهندسات اخذت اشكالاً مختلفة قبل ذلك ايضاً. ووفقاً لارقام جمعية المصارف فقد حققت المصارف خلال 26 عاماً، 22.1 مليار دولار من الارباح.
تحويل للثروات
إلا ان ارباح المصارف السنوية المعلنة رسمياً تشكل جزءاً فقط من ثروات المصرفيين التي قاموا بتوظيف جزء منها بسندات الخزينة وشهادات الايداع لدى مصرف لبنان ثم صفوا تلك المراكز قبل الازمة وحولوا الارباح الى الخارج. وفقاً لاحد الخبراء المصرفيين والماليين الذي اوضح لـ»نداء الوطن» ان ثرواتهم هي عبارة عن أرباح حققوها كمودعين ومستثمرين اولا وليس كمساهمين فقط في المصارف مستفيدين بشكل مباشر من العمليات التي أجروها مع البنك المركزي وأبرزها الهندسات المالية التي شكلت أكبر عملية تحويل للثروت في تاريخ لبنان. ولفت الى ان ثروات المصرفيين الخاصة وودائعهم تمّ توظيفها في مصارفهم الخاصة ولدى مصرف لبنان، «وهي أرباح لا تظهر بميزانيات المصارف بل في خسائر مصرف لبنان».
وضعوا أيديهم على العقارات
وشدد الخبير المصرفي والمالي على انه يجب ملاحقة المصرفيين قضائياً من اجل رفع السرية المصرفية عن حساباتهم وعملياتهم المصرفية من اجل التحقيق في مدى مساهمتهم في هدر وسوء أمانة اموال المودعين. مشيرا في هذا الاطار، الى ان مصرفيين، لجأوا مع بدء الحديث عن اعادة هيكلة المصارف، الى شراء الاصول العقارية التابعة لمصارفهم بأثمان بخسة من اجل تقليص موجودات المصارف الى الحدّ الادنى. وبالتالي في حال السير بمسار الافلاس القانوني، ستكون المصارف خالية من الموجودات. بالاضافة الى ذلك، استخدم المصرفيون ما تبقى من ودائعهم (في الداخل) التي بدأت تفقد قيمتها بعد الازمة، لشراء أصول المصارف العقارية ولشراء عقارات لهم ولزبائنهم الدائنين، في ظلّ غياب تام لاي تدخل او تحقيق من قبل لجنة الرقابة على المصارف.
واعتبر ان السلوك الذي اتّبعه المصرفيون لشراء العقارات، يستوجب مساءلتهم حوله قضائياً، كونهم على الرغم من درايتهم بضرورة اعادة الهيكلة قاموا عمداً بتقليص موجودات مصارفهم.
المحاسبة القانونية متاحة
من اجل تثبيت ارتباط أزمة المودعين بثروات المصرفيين، وتحديد مسؤوليتهم الحقيقية في اساءة الامانة والتوقف عن السداد، لا بدّ من رفع السرية المصرفية عنهم واللجوء الى القضاء للتحقيق في شرعية ثرواتهم، كون المتّهم يبقى بريئاً الى حتى تثبت ادانته.
في هذا الاطار، اوضح رئيس لجنة الدفاع عن حقوق المودعين في نقابة المحامين كريم ضاهر لـ»نداء الوطن» ان القوانين المصرفية النافذة المرعية الاجراء يمكن ان تستخدم لتحديد مسؤولية رؤساء واعضاء مجلس ادارة المصارف ومفوضي الرقابة وامكانية تحقيق ثروات غير شرعية على حساب اموال المودعين. للمثال، يمكن اللجوء، عند ثبوت توقّف أحد المصارف عن الدفع أو في حال تبيّن أنه لم يعد في وضع يمكنه من متابعة أعماله، الى القانون 2/67 (التوقف عن السداد) والقانون 28/67 الذي يتعلّق بوضع يد مصرف لبنان على المصرف المتعثر والذي قد يؤدي الى تصفيته وهو تشريع تم تعديله بموجب القانون 110/91.
وشرح ضاهر انه من خلال هذين القانونين، يتم تغيير مجلس ادارة المصرف والحجز على اموال رؤساء واعضاء مجلس الادارة والمدراء التنفيذيين وكل من تولى إدارة أو مراقبة أعمال وحسابات المصرف أو التوقيع عنه، وترفع السرية المصرفية عنهم للتحقيق في وجود مخالفات تقصيرية او عمليات احتيال او افلاس، خلال فترة الـ18 شهراً قبل التوقف عن السداد.
أكد كريم ضاهر ان هناك مروحة كبيرة من المخالفات والمسؤوليات التي يمكن تحميلها إلى رئيس وأعضاء مجلس إدارة المصرف والأشخاص الذين لهم حق التوقيع و/أو التدقيق أو ملاحقتهم على أساسها، ومنها على سبيل البيان لا الحصر:
1 – حق كل متضرّر بموجب المادة 166 من قانون التجارة، سواء كان مساهماً أو شخصاً ثالثاً، بملاحقة المدير العام وأعضاء مجلس إدارة الشركات المساهمة (من ضمنها المصارف) عن أعمال الغشّ، وعن مخالفة القانون والنظام الأساسي للشركة.
2 – ملاحقة أعضاء مجلس الإدارة والمدير العام عن أخطائهم الإدارية بموجب المادة 167 من قانون التجارة، ولا سيما تجاه الغير في حالة إفلاس الشركة وظهور عجز في موجوداتها وتحميلهم ديون الشركة.
3 – المادة 699 من قانون العقوبات التي نصّت على تمثّل هذه الجرائم بالمدين الذي يقوم، بقصد إضاعة حقوق الدائنين أو منع التنفيذ على أمواله المنقولة أو الثابتة، على عمليات إحتيال وتواطؤ تهدف إلى إنقاص أمواله بأي شكل كان ولا سيما بكتم بعض أمواله أو تهريبها.
4 – سائر الأعمال والتصرّفات الأخرى المخالفة للقوانين والأنظمة المرعية مثال: إستغلال المعلومات المميزة (insider trading)، إفشاء الأسرار، الإبتزاز، صرف النفوذ، إساءة الأمانة، استثمار الوظيفة أو المركز، الإحتيال (حمل الغير بالمناورات الاحتيالية على تسليم مال منقول والإستيلاء عليه أو إساءة إستعماله)، وهي كلها جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات ومشمولة بالقانون 44 الصادر في 24/11/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) كحالات جرمية تؤدي إلى تبييض الأموال.
واكد ضاهر ان معلومات كثيرة يمكن ان تظهر حول ممارسات بعض المصرفيين والسياسيين الذين استفادوا على حساب المودعين، في حال فُتحت الملفات قضائياً. موضحاً ان تحقيق العمولات والفوائد والارباح من دون التصريح عنها لوزارة المالية يعتبر تهرباً ضريبياً، كما ان تحقيق تلك العمولات والفوائد الشخصية (الهندسات المالية وغيرها) رغم علمهم المسبق ان هذا التصرّف سيؤدي الى عدم تمكنهم من تسديد متوجباتهم للمودعين، على غرار السماح بتحويل الاموال الى الخارج بعد 17 تشرين 2019، فان ذلك يعتبر بمثابة احتيال واساءة امانة وهو جرم جزائي مستتبع بجرم تبييض الاموال في حال تم تحويل تلك الاموال الى الخارج.
5 – اما ومع تعديل قانون السرية المصرفية، فان المادة الاولى منه تنص على رفع السرية المصرفية عن رؤساء واعضاء مجلس ادارة المصارف منذ تاريخ 23 ايلول 1988، وبالتالي اعتبر ضاهر ان اللجوء الى هذا القانون سيظهر شرعية او عدم شرعية ثروات المصرفيين، مذكّرا في هذا الاطار ان المصرفيين رفضوا الكشف عن السرية المصرفية لدى مطالبتهم بذلك من قبل القاضية غادة عون.
وفي الخلاصة، اعتبر ضاهر ان حجم الانهيار المالي والمصرفي يستحق على الاقلّ التحقيق في ثروات العديد من الافراد، منهم المصرفيون. وحال ثبوت الجرم الاساس، يمكن ملاحقتهم في الخارج بجرم تبييض الاموال على غرار ما حصل مع رياض سلامة.