فرضت مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، الأسبوع الماضي، زيادة مقطوعة بقيمة 45 ألف ليرة على المشتركين سنوياً بحجة دعم استكمال «منظومة المياه» التي تتضمن إنشاء سدود ومحطات تكرير لجر المياه الى بيروت. في غياب استراتيجية مائية، تلجأ المؤسسة والقيمون على السياسة المائية الى سياسة إنشاء السدود حصراً، فيما تؤكد الدراسات العلمية أن تطوير مصادر المياه الموجودة حالياً كفيل بتحقيق «الاكتفاء المائي»، وبكلفة تقلّ كثيراً عن مئات ملايين الدولارات التي تُصرف على السدود.
في بيان لها، الأسبوع الماضي، أعلنت مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان إقرار زيادة على اشتراكات المياه لهذا العام بمبلغ مقطوع قدره 45 ألف ليرة لدعم استكمال «منظومة المياه» بحلول سنة 2022. وتتضمن هذه المنظومة تأهيل شبكات المياه غير الصالحة وتجديدها، استحداث آبار ومحطات تكرير، المساهمة في مشروع جر مياه الاولي الى بيروت، إنشاء محطة تكرير للآبار المالحة التي تغذي بيروت الكبرى، استلام ثلاث محطات تكرير للصرف الصحي، استكمال مشروع سد جنة ونقل المياه منه الى ضبيه. علماً أن رسم الاشتراك زاد عام 2014 من 236 ألف ليرة الى 296 الفاً.
مشكلة مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان شبيهة بمشاكل مؤسسات الدولة التي لا تعمل من ضمن استراتيجية شاملة. فلو كانت لهذه المؤسسة (كما لوزارة الطاقة والمياه وللحكومات المتعاقبة)، استراتيجية فعلية لإدارة المياه غير تلك التي اقرها مجلس الوزراء عام 2012 من دون نقاش حقيقي، لكانت انطلقت – قبل أي قرار بفرض رسوم جديدة – من درس المعطى الطبيعي، من مياه سطحية وينابيع متفجرة أولاً، فاعتبرت حماية المصادر من التلوث والاعتداء والسرقة أولوية قصوى، وضبط الهدر في الشبكات وتطوير المصادر والتفكير بالبدائل اولى من انشاء السدود وأقل كلفة!
تطوير المصادر
ليست عبارة تطوير المصادر كبديل عن السدود نظرية تُطلق في الهواء. فالمصدر الاساس للقسم الاكبر من مياه بيروت وساحل المتن يمكن تأمينه من نبع جعيتا اذا ما تم تطويره. وهذا ما اكده تقرير البعثة الالمانية التي عملت بين عامي 2006 و2014 لحماية مغارة جعيتا من التلوث ودراسة مصادر المياه المتدفقة داخلها. إذ قدّر حجم المياه المتدفقة من المغارة بـ 1690 ليتراً في الثانية، اي ما يقارب 146 ألف متر مكعب في اليوم. وهذا يعني تدفق أكثر من ضعف التقديرات الرسمية (70 ألف متر مكعب يومياً) في شهر الشحائح (ايلول)! وأكد التقرير ان الكمية المتفجرة شتاء من المغارة تتجاوز مليون متر مكعب يومياً، وأن المياه المتدفقة من النبع غير محصورة جيدا، بمعنى انه يمكن الاستفادة من كميات أكبر من المياه وجرها الى بيروت. ولفت الى أن النفق الذي ينقل المياه الى محطة ضبية لا يستوعب كمية المياه كلها، وكذلك الامر بالنسبة الى محطة ضبيه التي لا تستطيع أن تعالج الا كمية محدودة من المياه. وأشار التقرير إلى أن ما لا يقل عن 30% من المياه المتدفقة تتسرب قبل أن تصل الى محطة ضبية، فيما يُهدر 40% بسبب اهتراء الشبكات. ولفت الى إمكانية انشاء سد في منطقة داريا، فوق نبع جعيتا، اذا تطلّب الامر بكلفة لا تتجاوز خمسين مليون دولار.
فلماذا لم تاخذ وزارة الطاقة والمياه ومؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان بهذه التوصيات التي تساهم بزيادة المياه المتوفرة من جعيتا وحدها الى الضعف؟ ولماذا لا يزال بند «معالجة الهدر في الشبكات» على برنامجها، بعد كل هذه المدة؟ وألم يكن اولى من انشاء السدود غير الضرورية، تطوير المصادر ووقف هدر الشبكات والسرقات؟
أثبت تقرير البعثة الألمانية عدم دقة الارقام الرسمية، وأن المشكلة الحقيقية تكمن في «ادارة» الثروة المائية لا في قلة المصادر. كما اثبت صحة المراهنة على التخزين الجوفي للمياه لا على التخزين السطحي، وعلى ضرورة حماية المصادر الجوفية المتفجرة وحسن توزيعها بدل البحث عن سد مجار ملوثة وحصرها وتعريضها للمزيد من التلوث والتبخر… ثم إنشاء محطات لمعالجتها واعادة ضخها بأكلاف مضاعفة وبنوعية متدنية.
الى ذلك، اكتشفت البعثة مجاري اخرى تتدفق من مغارة جعيتا (أحدها بقوة 20 ألف متر مكعب يومياً) يمكن أن تغنينا عن حفر الآبار الارتوازية المكلفة وإنشاء السدود. استخدام مثل هذه المجاري يمكن أن يغذي الشبكة الحالية التي تصل مياه جعيتا بمحطة ضبية بكميات إضافية ضخمة من المياه، على أن تستخدم الأموال الطائلة التي تنفق لحفر آبار ارتوازية (كلفة حفر 3 آبار بالقرب من مغارة جعيتا بلغت ثلاثة ملايين دولار لسحب 9 آلاف متر مكعب يوميا وضخها الى منطقة كسروان)، في تطوير الشبكة وتوسيعها وضبط الهدر بكلفة لا تقارن بكلفة حفر الآبار الارتوازية وتجهيزها وتشغيلها، ولا تقارن بالكلفة المقدرة لسد جنة (نحو مليار دولار) وسد شبروح (أكثر من 60 مليون دولار لتخزين 7 ملايين متر مكعب من المياه غير الصالحة للشرب!).
البعثة أشارت أيضاً الى إمكانيات كبيرة جدا لاكتشاف مجار أخرى في المنطقة الممتدة فوق جعيتا وصولاً الى منطقة افقا الجردية، وهي منطقة وصفتها بـ«مستودع للثلوج» التي تغذي الخزانات الجوفية، ويمكن استثمار معظمها بقوة الجاذبية من دون حاجة الى مضخات ومحطات معالجة… بما يؤمن فائضا كبيرا لحاجاتنا المائية، ويغنينا عن الحاجة الى مشاريع السدود، خصوصاً إذا ما ترافق ذلك مع سياسة توزيع وترشيد حكيمة.
اي ميزان مائي لبيروت؟
امام هذه المعطيات، المفترض قبل أي أمر آخر حصول مراجعة عميقة للميزان المائي لبيروت الكبرى على الأقل، ولإستراتيجية إدارة المياه في لبنان.
فاذا كانت المصادر المتوفرة حاليا لبيروت الكبرى وقسم من جبل لبنان (ساحل المتن على الاقل) من نبعي جعيتا والقشقوش تقدّر بنحو 200 ألف متر مكعب يومياً في فصل الشحائح، يضاف اليها فوار انطلياس (اكثر من 50 ألف متر مكعب)، والى الآبار على مجرى نهر الكلب (نحو 150 متر مكعب)، ونبعي عين الدلبة والديشونية (بين 30 و40 مترا مكعبا ) وآبار بعبدا والدامور التي ضربها التلوث والتملح، ناهيك عن مصادر أخرى… سنكون أمام كميات لا بأس بها من المياه في فصل الشحائح، قياسا الى عدد المشتركين في بيروت وجبل لبنان (نحو 392 ألف مشترك). فيما تؤكد دراسات هيدروجيولوجية امكانية حفر آبار في مرج بسري، بدل انشاء سد سطحي، كاحتياط استراتيجي في حال تراجع المتساقطات، بما ينسف كل الادعاءات بوجود نقص في الميزان المائي لبيروت وبالحاجة الى السدود!
مؤسسة بيروت وجبل لبنان أشارت في بيانها الاخير إلى ان إجراءاتها ساهمت في «وقف عمل 30% من صهاريج المياه في مناطق بيروت وجبل لبنان». وهنا، يفترض تذكيرها بأن من ينقلون المياه في الصهاريج لا يأتون بها من الخارج، مما يؤكد أن المياه متوفرة في لبنان من دون حاجة الى السدود المكلفة، وأن المشكلة هي في سوء الادارة والهدر والفساد.